كما تُدين تُدان.. في الخير أيضا..

مقالات رأي و تحليلات الأحد ٠٦/مارس/٢٠١٦ ٢٣:٥٠ م

لميس ضيف

كنت أراهما دوما في المناسبات الاجتماعية..
شابة ثلاثيينة أنيقة .. وامرأة خمسينية كنت أخالها ضحية إعاقة ما حتى عرفت بأنها مرأة هاجمها الزهايمر مبكرا .. مبكرا جداً .. وقلب حياتها رأسا على عقب ..
فرغم أنها أصغر أخواتها وليس هناك مسوغ طبي لما جرى عليها إلا أنها حكمة الله الذي يُدبر الأمر كيف يشاء .. فقد أصيبت بهذا المرض الذي ينتهك كرامة الإنسان ويدمر كيانه في نهاية العقد الرابع، وتدهورت حالتها سريعا فلم تعد تعرف في كثير من الأيام أخواتها بل وصارت تنسى أسماء أبنائها أيضا .. وبلغ بها المرض مبلغا صارت معه تنسى أحيانا كيف تفتح الباب، وكيف تعتني بنظافتها الشخصية فصارت كالطفل يحتاج للرعاية ليل نهار..
لا يدرك الناس مقدار العذاب الذي يعيشه مريض الزهايمر، فأدراج ذاكرته مغلقة على ما فيها ولكن مشاعره يقظة .. أنه يدرك أنه لا يدرك .. ويتذكر أنه ينسى .. يعرف أنه شخص له حياة لكن عقله يحمل قصاصات من ذاكرة لا يستطيع تجميعها ..
هذه المرأة تدعى خولة .. أما الشابة اللصيقة لها فأبنتها وأسمها زهرة تيمنا بجدتها الراحلة ..
زهرة – الجدة – كانت أما لثلاث أبناء وبنت وحيدة هي خولة .. عندما بلغت السبعين من حياتها زاد وزنها بشكل حولها لخزينة أمراض.. فقد أعتلت ركبتاها فما عادتنا يقويان على حملها ، وتأثرت كليتها وكانت التقنية – آنذاك – تُحتم على المريض الخضوع لغسيل كليه لـ 3 ساعات مرتان أسبوعيا .. كما وألزمها السكر بحمية غذائية قلما ألتزمت بها .. وفي سنوات عمرها الأخيرة فقدت بصرها بسبب السكر ..
خلال تلك الرحلة الطويلة التي يذكر المرء فيها قوله تعالى " ومن نعمره ننكسه في الخلق أفلا يعقلون " كانت خولة الأبنة البارة لأمها .. تحفها بالرعاية من كل اتجاه وتهمل زوجها وأبنائها في سبيل ذلك.. ولما فقدت الأم بصرها وافقت أخيرا على ترك بيت العمر والانتقال لبيت بنتها وهناك عاشت مدللة حتى فاضت روحها لبارئها.. دارت الأيام .. وأصبحت " خولة " في وضع أسوأ من والدتها وفي عمر أصغر بكثير .. وهنا حان وقت دفع الفاتورة التي كتبتها لنفسها مسبقا .. فقد تحولت أبنتها " زهرة" من أبنة لها لأم ترعاها وتحفها بالعطف والحنان .. ولا تكتفي بذلك بل وتُلزم نفسها بمصاحبتها في المناسبات الاجتماعية من أفراح وأحزان .. لكي تأنس ولا تفقد صلتها بالعالم الخارجي.
بالفعل "كما تُدين تُدان".. وهي عبارة تُقال دوما للتقريع وتهديد كل من يعقّ والديه . وإن ما حصحص الحق " فكما تُدين تدان " حكمة تحمل وجوها مضيئة أيضا.
فكما برت هذه المرأة بوالدتها ووفت حقها، دارت السنين ورّد الله لها ذلك البر في أبنتها وستدور عجلة البر يوما لتنال البنت أيضا..
يقول تعالى :
﴿ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً ﴾

نعم.. فكما تُدين تُدان..
في الخير كما في السوء أيضا ..