الصين تواجه معضلة موندل فليمنج الثلاثية

مقالات رأي و تحليلات الخميس ٠٨/مارس/٢٠١٨ ٠٤:٣٨ ص
الصين تواجه معضلة موندل فليمنج الثلاثية

يو يونج دنج

بكين ــ بعد سنوات من التدخل لإدارة سعر صرف الرنمينبي، يتعرض البنك المركزي الصيني (بنك الشعب الصيني) لضغوط تدفعه إلى تعويم العملة. لكن إيجاد التوازن الصحيح بين تخفيف قبضته على سعر الصرف والحفاظ على الاستقرار النقدي لن يكون بالمهمة السهلة.

يتعلم كل طالب يدرس الاقتصاد نموذج موندل فليمنج، والذي يعجز الاقتصاد وفقاً له عن الحفاظ على سعر صرف ثابت، وحركة رؤوس أموال حرة، وسياسة نقدية مستقلة في وقت واحد. فإذا قررت دولة لديها سعر صرف ثابت وحساب رأسمالي مفتوح إحكام السياسة النقدية، من أجل احتواء التضخم، فإن ارتفاع أسعار الفائدة المحلية من شأنه أن يعطي المشاركين في السوق الحافز لاقتراض عملات أجنبية وتحويلها إلى العملة المحلية للاستثمار في أصول محلية.

وإذا استمرت تدفقات رأس المال الناتجة عن ذلك فإنها تعمل على توليد ضغوط من شأنها أن تدفع قيمة العملة إلى الارتفاع، فتضطر البنك المركزي، في محاولة للحفاظ على استقرار سعر الصرف، إلى التدخل من خلال بيع العملة المحلية، وخاصة في مقابل الدولار الأمريكي، إلى أن تعود أسعار الفائدة والمعروض النقدي إلى مستوياتها الأصلية.
بيد أن الصين لم تكن قَط الدولة التي تتمسك بالنماذج القائمة. فقد أدارت الصين فائضا في الحساب الجاري كل عام منذ 1993. ولأن قيمة الرنمينبي كانت في ارتفاع ببطء شديد، فإن التوقعات في أسواق الصرف الأجنبي كانت مستمرة بلا انقطاع. ولكن نظراً لضوابط رأس المال التي يسهل اختراقها في الصين، استمرت رؤوس الأموال القصيرة الأجل، التي تستهدف مراجحة أسعار الصرف، في التدفق إلى داخل الصين.
ولو سمحت الصين بارتفاع قيمة الرنمينبي، فإن فوائضها الخارجية كانت لتختفي. ولكن خوفاً من التأثير الذي قد تخلفه العملة الأقوى على التجارة، أنفق بنك الشعب الصيني أكثر من عشر سنوات من العمل النشط لعرقلة ارتفاع قيمة الرنمينبي، من خلال مبادلة الرنمينبي بالدولار.
وفقا للنسخة الدراسية من نموذج موندل فليمنج، كان ينبغي للنهج الذي اتبعه بنك الشعب الصيني أن يدفعه إلى فقدان السيطرة على المعروض النقدي وأسعار الفائدة، فيؤدي هذا إلى التضخم الجامح. لكن معدل التضخم في الصين ظل معتدلاً. وفي الإجمال، نجح بنك الشعب الصيني في الحفاظ على سياسة نقدية مستقلة، في حين حافظ على استقرار سعر الصرف وانفتاح حساب رأس المال جزئياً.
تشير تجربة الصين إلى أن ما يقدمه نموذج موندل فليمنج بوصفه اختياراً صارخاً هو في واقع الأمر أقرب إلى طيف. فبوسع الدولة أن تحافظ على سيطرتها على سعر الصرف، وحركة رأس المال الحرة نسبيا، وسياسة نقدية فعّالة في نفس الوقت، ولكن إلى حد معين فقط.
السبب وراء هذا هو أن نموذج موندل فليمنج يفشل في وضع الدور الذي تلعبه سياسة التعقيم في الحسبان. فعندما تدير دولة ما، تطبق نظاماً غير محكم لفرض ضوابط رأس المال، فائضاً دولياً في ميزان المدفوعات، يتطلب الحفاظ على سعر صرف ثابت التوسع المستمر في المعروض النقدي. لكن سياسية التعقيم يمكن استخدامها للتخلص من السيولة الزائدة الناجمة عن التدخل في سوق الصرف الأجنبي. وعلى مدار أكثر من عشر سنوات، كانت الصين تفعل هذا على وجه التحديد.
كان بيع أوراق البنك المركزي المالية من العناصر الرئيسية في سياسة التعقيم التي انتهجتها الصين. فعادة، تبيع الدولة سندات الحكومة للجمهور لاستيعاب السيولة الزائدة. لكن بنك الشعب الصيني باع كل سنداته الحكومية بحلول العام 2003. وعلى هذا فقد باع أوراقه المالية الخاصة للجمهور بدلاً من ذلك.
استخدم بنك الشعب الصيني أداة تعقيم أخرى أقل بروزا، ولكن لعلها أكثر أهمية، وهي زيادة متطلبات الاحتياطي. في الفترة من 2010 إلى 2011، رفع بنك الشعب الصيني معدل متطلبات الاحتياطي (نسبة الودائع التي يتعين على البنوك أن تحتفظ بها لدى بنك الشعب الصيني) 11 مرة ــ من 16% إل 21% ــ من أجل كبح جِماح التضخم ومنع فرط النشاط.
بيد أن سياسة التعقيم في الصين كانت باهظة التكاليف. وبين أبرز هذه التكاليف كان العبء الثقيل الذي فُرِض على الاقتصاد الصيني بفِعل تراكم كميات ضخمة من احتياطيات النقد الأجنبي، التي بلغت ذروتها عند مستوى 4 تريليون دولار أميركي في يونيو 2014.
علاوة على ذلك، في حين يرى العديد من خبراء الاقتصاد الصينيين في غياب التضخم المرتفع دليلا على أن سياسات التعقيم في الصين نجحت في إزالة كل السيولة الزائدة، فإن فقاعات الأصول الكبرى، بما في ذلك الإسكان في المناطق الحضرية، تشير إلى العكس. ووفقا لوزارة الإسكان والتعمير، سجلت أسعار المساكن في عينة من المدن الصينية في الفترة من 2004 إلى 2014 زيادة بلغت 150%. وعلى هذا فإن الصين ربما تواجه يوم الحساب وهي تفتقر إلى القدر الكافي من التعقيم.
من الجدير بالذكر أن الصين لا تتمكن من التحايل على نموذج موندل فليمنج إلا عندما يخضع الرنمينبي لضغوط تدفعه إلى الصعود. ففي الفترة من 2015 إلى 2017، عندما واجه الرنمينبي انخفاضا متسارعا، تدخل بنك الشعب الصيني لمنع الهبوط الحاد ــ وهي المحاولة التي استنفدت من احتياطيات الصين من النقد الأجنبي قدرا هائلا بلغ تريليون دولار أميركي. وقد ترك هذا التدخل ــ وهو الأكبر من نوعه من قِبَل أي بنك مركزي على الإطلاق ــ بنك الشعب الصيني محروما من أي قدرة على الاختيار غير إحكام ضوابط رأس المال بدرجة كبيرة.
إذا كان لزاما على الصين أن تختار، فإن الحساب الرأسمالي المفتوح والسياسة النقدية الفعّالة أكثر أهمية من سعر الصرف الثابت ــ وهي الحقيقة التي ستزداد بروزا بمرور الوقت. الخبر السار هنا هو أن بنك الشعب الصيني كان على مدار العام الفائت أو نحو ذلك متوقفا عن التدخل على أساس يومي في سوق الصرف الأجنبي. وأيا كانت التحديات التي تواجهها الصين، فيتعين على بنك الشعب الصيني أن يحافظ على رباطة جأشه. وفي سبيل الحفاظ على الاستقرار الاقتصادي والتقدم المستمر في الصين، فإنه يحتاج إلى إقناع الأسواق بأنه ملتزم بنظام معوم لإدارة سعر الصرف.

الرئيس الأسبق للجمعية الصينية للاقتصاد العالمي، ومدير معهد الاقتصاد العالمي والسياسة في الأكاديمية الصينية للعلوم الاجتماعية سابقاً، وكان عضواً في لجنة السياسات النقدية لدى بنك الشعب الصيني في الفترة من 2004 إلى 2006.