المحرك الحقيقي لدورة الأعمال

مقالات رأي و تحليلات الخميس ٠٨/مارس/٢٠١٨ ٠٤:٣٧ ص

أمير صوفي؛ عاطف ميان

يبدو أن كل أزمة مالية كبرى تخلف بصمة فريدة. وكما كشفت الأزمات المصرفية على مدار القرنين التاسع عشر والعشرين عن أهمية سيولة القطاع المالي ومقرضي الملاذ الأخير، أكدت أزمة الكساد العظيم على ضرورة اتباع سياسات مالية ونقدية معاكسة للدورة الاقتصادية. وفي وقت أقرب إلى الزمن الحاضر، كشفت أزمة 2008 المالية وما أعقبها من ركود عظيم عن المحركات الأساسية لدورة الأعمال المدفوعة بالائتمان.

على وجه التحديد، أظهر لنا الركود العظيم أننا قادرون على التنبؤ بتباطؤ النشاط الاقتصادي بالنظر إلى ديون الأسر المتزايدة الارتفاع. ففي الولايات المتحدة والعديد من الدول الأخرى، كانت التغيرات في نسب ديون الأسر إلى الناتج المحلي الإجمالي في الفترة بين 2002 و2007 شديدة الارتباط بالزيادات في البطالة في الفترة من 2007 إلى 2010. على سبيل المثال، قبل الانهيار، سجلت ديون الأسر زيادة هائلة في أريزونا ونيفادا، وكذلك في أيرلندا وإسبانيا؛ وبعد الانهيار، شهدت المناطق الأربع حالات ركود حادة بشكل خاص.

الواقع أن ارتفاع ديون الأسر كان منبئا بالركود الاقتصادي قبل فترة طويلة من الركود العظيم. ففي خطابه الرئاسي الذي ألقاه في العام 1994 أمام الرابطة الاقتصادية الأوروبية، أظهر ميرفين كنج، كبير خبراء الاقتصاد في بنك إنجلترا آنذاك، أن الدول التي شهدت أكبر زيادات في نسب ديون الأسر إلى الدخل في الفترة من 1984 إلى 1988 هي التي عانت من أكبر قصور في نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي (المعدل تبعا للتضخم) في الفترة من 1989 إلى 1992.
على نحو مماثل، أظهرنا في عملنا مع إميل فيرنر من جامعة برينستون أن الولايات الأمريكية التي شهدت أكبر زيادات في ديون الأسر في الفترة من 1982 إلى 1989 عانت من زيادات أكبر في البطالة وانحدارات أكثر حدة في نمو الناتج المحلي الإجمالي في الفترة من 1989 إلى 1992. في دراسة أخرى مع فيرنر، قمنا بفحص بيانات من 30 دولة للسنوات الأربعين المنصرمة، وأثبتنا أن ارتفاع نسب ديون الأسر إلى الناتج المحلي الإجمالي أسفرت بشكل منهجي عن تباطؤ نمو الناتج المحلي الإجمالي وارتفاع معدلات البطالة. وتؤكد هذه النتيجة أبحاث حديثة أجراها صندوق النقد الدولي، وقد استخدمت هذه الأبحاث عينة أكبر.ورغم كل هذا فإن الاستنتاج الذي نستخلصه من مجموعة كبيرة من الأبحاث حول الروابط بين ديون الأسر، وسوق الإسكان، ودورات الأعمال، هو أن التوسع في المعروض من الائتمان، والذي يعمل في الأساس من خلال طلب الأسر، يشكل محركاً مهماً لدورات الأعمال في عموم الأمر. ونحن نسمي هذا «قناة طلب الأسر المدفوعة بالائتمان». يحدث التوسع في المعروض من الائتمان عندما يزيد المقرضون من كم الائتمان أو يخفضون أسعار الفائدة على الائتمان لأسباب لا تتعلق بدخل المقترضين أو إنتاجيتهم.
في دراسة حديثة، نوضح أن قناة طلب الأسر المدفوعة بالائتمان تستند إلى ثلاث ركائز مفاهيمية. فأولا، تُعَد توسعات المعروض من الائتمان، وليس التكنولوجيا أو صدمات الدخل الدائمة، المحركات الأساسية للنشاط الاقتصادي. وهي فكرة مثيرة للجدال. ذلك أن أغلب النماذج تعزو تقلبات الاقتصاد الكلي إلى عوامل حقيقية مثل صدمات الإنتاجية. لكننا نعتقد أن القطاع المالي ذاته يلعب دورا ــ لم يجد ما يستحق من تقدير ــ من خلال استعداده للإقراض.ووفقا لركيزتنا الثانية، تؤثر توسعات المعروض الائتماني على الاقتصاد الحقيقي من خلال تعزيز طلب الأسر، وليس القدرة الإنتاجية التي تتمتع بها الشركات. ذلك أن طفرات الائتمان تميل إلى الارتباط بارتفاع التضخم وزيادة معدلات تشغيل العمالة في قطاعات البناء والتجزئة، وليس في قطاع الأعمال القابلة للتداول أو الموجهة نحو التصدير. وعلى مدار السنوات الأربعين المنصرمة، يبدو أن التوسعات في المعروض الائتماني مولت إلى حد كبير الإنفاق الأسري المسرف، وليس الاستثمار المنتج من قِبَل الشركات.وتوضح ركيزتنا الثالثة لماذا تكون مرحلة انكماش دورة الأعمال المدفوعة بالائتمان شديدة الحدة. المشكلة الرئيسية هي أن الاقتصاد واجه وقتاً عصيباً في محاولة «التكيف» مع الانخفاض الهائل الذي يطرأ على إنفاق الأسر المثقلة بالديون عندما ينضب معين الائتمان، وهو ما يحدث عادة خلال الأزمات المصرفية. وحتى عندما تهبط أسعار الفائدة القصيرة الأجل إلى الصِفر، يعجز المدخرون عن الإنفاق بالقدر الكافي للتعويض عن النقص في الطلب الكلي. وعلى جانب العرض، لا تستطيع العمالة أن تهاجر بسهولة من القطاع غير القابل للتداول إلى القطاع القابل للتداول. وعلاوة على ذلك، تميل أوجه الجمود الاسمية، والانقطاعات في القطاع المصرفي، والتشوهات الموروثة إلى زيادة حدة الركود بعد طفرات الائتمان.الواقع أن تركيزنا على المرحلتين التوسعية والانكماشية من دورة الائتمان يتفق مع منظور الباحثين السابقين. وكما أظهر الخبيران الاقتصاديان تشارلز كيندلبيرجر وهيمان مينسكي، فإن الأزمات المالية ونوبات انكماش المعروض الائتماني ليست أحداثا خارجية تضرب اقتصاد مستقر. بل ينبغي لنا أن ننظر إليها على أنها، جزئيا على الأقل، نتيجة لتجاوزات اقتصادية سابقة ــ أو على وجه التحديد توسعات في المعروض من الائتمان.
باختصار، تنثر توسعات المعروض الائتماني عادة بذور دمارها. ولكي نفهم الكساد، يتعين علينا أن نفهم الرواج، وخاصة التحيزات السلوكية وعوامل الطلب الكلي الخارجية التي تلعب مثل هذا الدور الحاسم في دورات الكساد والرواج الائتماني.
لكن هذا يقودنا إلى سؤال آخر: ما الذي يشعل شرارة توسعات المعروض الائتماني في المقام الأول؟ استنادا إلى قراءتنا للأحداث التاريخية، نؤكد أن التدفق السريع لرأس المال إلى النظام المالي يؤدي في كثير من الأحيان إلى التوسع في المعروض الائتماني. وقد حدث هذا النمط من الصدمات مؤخرا بالتزامن مع اتساع فجوة التفاوت في الدخل في الولايات المتحدة وارتفاع معدلات الادخار في العديد من الأسواق الناشئة (وهذا ما أطلق عليه رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي الأسبق بن برنانكي وصف «تخمة الادخار العالمية»).
على الرغم من تركيزنا على دورات الأعمال، فنحن نعتقد أن قنوات طلب الأسر المدفوعة بالائتمان قد تكون مفيدة في الإجابة على أسئلة أطول أمدا أيضا. وكما أوضح أوسكار جوردا، وموريتس شولاريك، وألان تيلور من بنك الاحتياطي الفيدرالي في سان فرانسيسكو، حدثت زيادات مزمنة طويلة الأجل في نسب الائتمان الخاص ــ وخاصة الائتمان الأسري ــ إلى الناتج المحلي الإجمالي في مختلف الاقتصادات المتقدمة. وكان هذا الاتجاه مصحوبا بانحدار في أسعار الفائدة الحقيقية الطويلة الأجل، فضلا عن الزيادات في مستويات التفاوت داخل كل دولة و»تخمة الادخار» بين الدول. والسؤال الآن هو ما إذا كان هناك ارتباط بين الاتجاهات الأطول أجلا وما نعرفه عن وتيرة دورات الأعمال.

أمير صوفي أستاذ الاقتصاد والسياسة العامة في كلية بوث لإدارة الأعمال في جامعة شيكاغو

عاطف ميان أستاذ الاقتصاد والسياسة العامة والتمويل في جامعة برينستون، ومدير مركز جوليس رابينويتز للسياسة العامة والتمويل في كلية وودرو ويلسون.