العمل نحو النموذج الاقتصادي

مقالات رأي و تحليلات الأربعاء ٠٧/مارس/٢٠١٨ ١٠:٢٦ ص

محمد عبد الله العريان

على مدار عقود من الزمن، وَضَع العالَم الغربي يقينه في نموذج اقتصادي محدد بشكل جيد ومقبول على نطاق واسع ويضم تطبيقات على الصعيدين الوطني والعالمي. ولكن على خلفية من تراجع الثقة في قدرة «الخبراء» على تفسير التطورات الاقتصادية، ناهيك عن توقعها، تدهور ذلك اليقين. وفي انتظار نموذج جديد لم يظهر بعد، يواجه الاقتصاد العالمي خطرا متناميا يتمثل في التفتت، مع تأخر الدول الأكثر عُرضة للخطر بالفعل عن الركب لمسافة أبعد.

يتجسد النموذج الذي كان حتى وقت قريب يهيمن على قدر كبير من الفِكر الاقتصادي وعملية صنع السياسات في ما يسمى «إجماع واشنطن» ــ والذي يتألف من عشر وصفات يمكن تطبيقها على نطاق واسع في إدارة السياسات في مختلف الدول على أساس فردي ــ وعلى المستوى الدولي، في ملاحقة العولمة الاقتصادية والمالية. كانت الفكرة ببساطة أن الدول ستستفيد من تبني التسعير القائم على السوق وإلغاء الضوابط التنظيمية في الداخل، مع تعزيز التجارة الحرة وتدفقات رأس المال المفتوحة نسبياً عبر الحدود.

كان تعميق الروابط الاقتصادية والمالية بين الدول يُعَد الوسيلة الأفضل لتحقيق مكاسب دائمة، وتعزيز الكفاءة والإنتاجية، وتخفيف التهديد المتمثل في عدم الاستقرار المالي. كما اعتُبِر هذا النهج كفيلا بجلب فوائد مصاحبة، من تعزيز الحراك الاجتماعي الداخلي إلى الحد من خطر الصراع العنيف بين الدول. وقد وَعَد بدعم التقارب الإيجابي بين الدول النامية والمتقدمة، وبالتالي الحد من كل من الفقر المطلق والفقر النسبي وإضعاف الحوافز الاقتصادية للهجرة غير القانونية عبر الحدود.
وبدعم من نظريات اقتصادية تقليدية تدرس في أغلب الجامعات، اكتسب هذا النهج قدرا متجددا من النشاط بعد سقوط سور برلين وتفكك الاتحاد السوفييتي، عندما انضمت الدول الشيوعية سابقاً، جنباً إلى جنب مع الصين، إلى النظام العالمي الذي هيمن عليه الغرب، الأمر الذي أدى إلى تعزيز إجمالي الإنتاج والاستهلاك.
ولكن عند نقطة معينة، تحولت الثقة في إجماع واشنطن إلى شيء أشبه باليقين الأعمى. وأسهم الشعور بالرضا عن الذات بين صناع السياسات وأهل الاقتصاد على السواء في زيادة خطر تعرض الاقتصاد العالمي لسلسلة من الصدمات الصغيرة التي بلغت ذروتها في العام 2008 بأزمة دفعت العالَم إلى حافة الكساد الاقتصادي المدمر لسنوات متعددة.
وفجأة، تضاءلت مزايا العولمة مقارنة بالمخاطر المصاحبة لها. وما زاد الطين بلة أن منشأ الأزمة كان الولايات المتحدة، التي كانت حتى ذلك الحين النصير الرئيسي لإجماع واشنطن والعولمة غير المقيدة، بما في ذلك من خلال دورها في المنظمات المتعددة الأطراف مثل مجموعة الدول السبع، وصندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، ومنظمة التجارة العالمية.
كانت الإخفاقات التحليلية مسؤولة جزئيا عن ذلك. فلم تقطع مهنة الاقتصاد الشوط الكافي لتطوير فهم شامل للعلاقة بين قطاع مالي سريع النمو ومتحرر بشكل متزايد من الضوابط التنظيمية والاقتصاد الحقيقي. وكان فهم تأثير الإبداعات التكنولوجية الرئيسية هزيلا. ولم تستوف الرؤى من العلوم السلوكية حقها من الدراسة ــ وربما جرى تجاهلها بالكامل ــ لصالح أسس الاقتصاد الجزئي الأنيقة تحليليا والتي كان من السهل التعبير عنها في النماذج، ولكنها غير واقعية وشديدة التبسيط.
من ناحية أخرى، تجاهل صناع السياسات العواقب الاقتصادية والسياسية والاجتماعية المترتبة على فجوة التفاوت المتزايدة الاتساع ــ ليس فقط في الدخل والثروة، بل وأيضا في الفرصة ــ مما سمح بتفريغ الطبقة المتوسطة تدريجيا، وهو الاتجاه الذي تفاقم بفِعل تطورات تكنولوجية وغير تكنولوجية. كما استخف صناع السياسات بمخاطر العدوى المالية والطفرات التي طرأت على تدفقات الهجرة. ونتيجة لهذا، تأخرت المعايير والقواعد السلوكية عن الواقع على الأرض بأشواط، واستفحل الاستقطاب السياسي.
على المستوى الدولي، واجه نظام ما بعد الحرب الراسخ تحديات متزايدة القوة من جانب الصين الصاعدة، التي تمكنت بفضل حجمها الضخم جغرافيا وسكانيا من اكتساب أهمية جهازية، على الرغم من انخفاض نصيب الفرد في الدخل هناك فضلا عن النظام السياسي الذي بدا متعارضا مع الاقتصاد الليبرالي القائم على السوق. وناضلت المؤسسات الاقتصادية العالمية الكبرى في محاولة للتكيف السريع.
على الرغم من قِلة من التعديلات الدقيقة، ظلت هياكل الحكم في صندوق النقد الدولي والبنك الدولي أكثر تعبيراً عن حقائق الماضي في واقع الأمر، مع احتفاظ أوروبا بشكل خاص على قدر غير متناسب من النفوذ. وحتى مجموعة العشرين، التي نشأت بعد أن تبين أن مجموعة الدول السبع كانت أضيق وأكثر انغلاقاً من أن تعمل على دعم التنسيق الفعّال للسياسة الاقتصادية، فشلت في تغيير قواعد اللعبة. وسرعان ما أفضى الافتقار إلى الاستمرارية التشغيلية، إلى جانب الخلافات بين البلدان، إلى تقويض فعالية مجموعة العشرين، وعلى وجه التحديد بعد انقضاء تهديد الكساد العالمي.
بالنظر إلى كل هذه الحقائق، لا ينبغي لنا أن نندهش إزاء تراجع الحماس للعولمة الاقتصادية والمالية. والواقع أن الاقتصادات المتقدمة والناشئة قاومت طويلا فكرة تعزيز المؤسسات الإقليمية والدولية بتفويض المزيد من السلطة الوطنية إليها.
الآن، تتبنى بعض الدول نهجا أكثر انغلاقا على الذات و/‏أو تحول تركيزها نحو الثنائية، وفي آسيا نحو الروابط الإقليمية. والواقع أن مثل هذه التحولات تعطي الاقتصادات الأكبر حجما مثل الولايات المتحدة والصين ميزة واضحة، في حين تواجه بعض الاقتصادات والمناطق ــ وخاصة في أفريقيا ــ قدرا متزايدا من التهميش.
لن يكون بناء الإجماع حول نموذج موحد ومنقح بالمهمة السهلة. فسوف تكون عملية صعبة تحليليا ومرهقة سياسيا ومستهلكة للوقت، وربما تنطوي على دراسة ورفض بعض الأفكار الرديئة قبل أن تترسخ الأفكار الطيبة. سوف تكون هذه العملية أيضا أكثر ميلا إلى تعددية التخصصات والشمول الفِكري ــ والتوجه من القاعدة إلى القمة أكثر من توجهها من القمة إلى القاعدة ــ مقارنة بالعملية التي سبقتها. وسوف تحتاج إلى التكيف بذكاء مع الإبداعات في عالَم الذكاء الاصطناعي، والبيانات الضخمة، والتنقل الحر.
من ناحية أخرى، يتعين على أهل الاقتصاد وصانعي السياسات أن يضطلعوا بدور مهم في تحسين الوضع القائم. وعلى المستوى الدولي، لابد أن يشكل مفهوم «التجارة العادلة» ــ ناهيك عن الإزاحة الاجتماعية ــ جزءا أكبر من عملية مناقشة السياسات. كما تحتاج الاقتصادات ــ وخاصة في أوروبا ــ إلى العمل بنشاط لإصلاح نظام الحوكمة المتعددة الأطراف المنهك الذي يفتقر على نحو متزايد إلى المصداقية.
علاوة على ذلك، تحتاج حلقات التغذية المرتدة بين الاقتصاد الحقيقي والتمويل إلى مزيد من الدراسة المتعمقة. ومن الأهمية بمكان أيضاً التوصل إلى فهم أفضل للقضايا المتعلقة بالتوزيع، بما في ذلك الضغوط المفروضة على الطبقة المتوسطة ومأزق الشرائح السكانية المعرضة لخطر الانزلاق عبر ثغرات شبكات الأمان الاجتماعي المفرطة الامتداد، وبالتالي معالجة هذه القضايا على النحو اللائق. ويتطلب هذا تكوين فهم أعمق للتغيرات البنيوية المدفوعة بالتكنولوجيا، مع إدراك شركات التكنولوجيا الكبرى لأهميتها الجهازية المتنامية والتكيف بما يتفق مع هذه الأهمية وبما يتماشى مع توجهات الحكومة.
كان الرضا عن الذات أحد الأسباب الرئيسية وراء خسارة النموذج الاقتصادي الأخير لمصداقيته. ولا ينبغي لنا أن نسمح له بإيقاع المزيد من الأذى والضرر.

كبير المستشارين الاقتصاديين في أليانز، وكان رئيساً لمجلس الرئيس الأمريكي باراك أوباما للتنمية العالمية، وهو مؤلف كتاب «اللعبة الوحيدة في المدينة: البنوك المركزية، وعدم الاستقرار، وتجنب الانهيار التالي»