د. رجب بن علي العويسي
خبير الدراسات الاجتماعية والتعليمية في مجلس الدولة
يأتي حديثنا عن دور المجتمع أفراده ومؤسساته في غرس قيم الاستهلاك، منطلقا لبناء ثقافة الاستهلاك الواعي وتعزيز حضورها في سلوك الطفل منذ نعومة أظفاره، ليتشرّب مبادئها وأخلاقياتها ومنهجياتها وأسسها ومنطلقاتها، وهو على بيّنة من أمره، وإدراكا لطبيعة المسؤولية التي يتحمّلها في ظل تعميق القيم الداعمة لسلوك الإنتاجية والاعتدال في الإنفاق وحسن التصرّف عند استخدام الموارد والإمكانات وتصحيح الممارسات بالشكل الذي يعزز من ثقة الطفل في نفسه وبناء اتجاهاته الإيجابية نحو عادات الاستهلاك الرشيد ومفهومه وطريقة إدارته وما يترتب على ذلك من حس المسؤولية في التصرّف والاختيار الواعي للبدائل الاقتصادية والاستهلاكية المُتاحة وتعزيز الموجهات الإيجابية الضبطية المرتبطة بسلوكه وأفكاره حول مواصفات المنتج الذي يرغب بشرائه سواء من حيث تاريخ الصنع والانتهاء والمواد الحافظة أو المكوّنات الأساسية لهذا المنتج.
وبالتالي ما يتطلّبه غرس هذه الثقافة من أدوات عمل مقننة تأخذ بيد الطفولة وتبني خلالها سلوك الوقاية الناتجة عن حسن اختيار المنتج، أو طريقة التعامل الذكي مع طرق الاستهلاك الإيجابي الذي يتجاوز حالات استنزاف الموارد وبعثرة الأموال والتخلّص منها، وبالتالي إعادة إنتاجها بطريقة تضمن الحصول على منتج مناسب أو شراء مواد استهلاكية مرتبطة باحتياجه وضروراته، والثقة في طريقة استخدامه والاعتماد على النفس واستشارته في اختيار بعض المواد الاستهلاكية اليومية إذ من شأن ذلك أن يولّد لديه الحرص والمسؤولية وتقدير هذه الثقة وامتلاك مقومات الاختيار الواعي من بين بدائل متعددة في السوق وأنواع مختلفة من المنتجات الاستهلاكية، فإن منح الطفل الثقة في الاختبار وتجريبه في مواقف تبني فيه سلوكاً إيجابياً لشراء متطلبات المنزل اليومية أو أدواته الشخصية والمدرسية وتعريفه بالأسعار والمبلغ المستقطع للسلع المطلوبة، وكيفية التصرّف في حالة زيادة سعر الشراء عن المبلغ المحدد سلفا لها، وبالتالي إمكانية تقاسم الأدوات والمشاركة فيها بما يقلل من حالة الاستنزاف لها، خاصة تلك التي لا تترتب عليها أي أضرار أو آثار على حياة الطفل.
على أن تحقيق هذه الموجهات في حياة الطفل يرتبط بحس الشعور الإيجابي الذي يتملّكه في عمليات الاستهلاك اليومي، والإثراء المعرفي السليم الذي يصل إلى مسامعه بأسلوب يتوافق مع لغة الطفل وطريقة تفكيره في قياس الأوضاع التي يمرّ بها، والمفردات الاستهلاكية اليومية التي يتعامل معها، بحيث تصنع عمليات التوعية والتوجيه والتثقيف مسارات أكبر لقبول التغيير وإعادة هندسة الواقع الاستهلاكي للأسرة، بما يضمن صناعة سلوك إيجابي لدى الطفل وحرص على استمرارية قيامه بالمسؤولية وشعوره بالفخر وهو يؤدي هذه المهمة المطلوبة منه على المستوى الأسري والشخصي، وإكسابه الثقة في التعامل مع هذا الواقع الاستهلاكي بطريقة منهجية مقننة تبني في الطفل عادات الاستهلاك وضوابطه.
وعليه فإن تناغم هذا الدور بين مؤسسات التنشئة الاجتماعية كالأسرة والعائلة وأصحاب الحي والمدرسة والمؤسسات والمراكز الثقافية والاجتماعية والرياضية ومراكز الطفولة التي تعمل على إعداد النشء وصقل مهاراته وبناء قدراته واحتضان قدراته تمكّنه من فهم طبيعة الممارسات الاقتصادية اليومية وتبني قيم الاستهلاك الإيجابي المعزز للإنتاجية وسلوك الاقتصاد في الإنفاق والمحافظة على المال وحسن الاستثمار فيه وتوجيهه نحو الأولويات الأساسية في حياة الطفل، فيبني فيه مداخل تغيير العادات الاستهلاكية وينمّي فيه أبعاد الصحة النفسية والغذائية والجسمية والبدنية وتوفير الأنشطة المعززة للاستهلاك الإيجابي للطفل بعيدا عن أي ممارسات تضع الفرد في موقف الاستنزاف للثروات والتبذير والإسراف أو التقتير والبخل، وعندما يستحضر الطفل هذه القيم ويستنطقها في واقع عاداته وممارساته الغذائية ومتطلباته داخل الأسرة وخارجها فيقبل عليها بشعوره بأهمية أن تكون ممارساته انعكاسا للتوجيهات الربانية والسيرة المحمدية التي تدعو إلى الاعتدال في الإنفاق والمحافظة على الموارد والممتلكات.