دروس الاثنين الأسود

مقالات رأي و تحليلات الثلاثاء ٢٧/فبراير/٢٠١٨ ٠٣:٣٤ ص
دروس الاثنين الأسود

باري إيشنغرين

اعتاد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أن يشير إلى سوق الأوراق المالية على أنها مصدر للتحقق من فعالية وسلامة البرنامج الاقتصادي لإدارته. لكن رغم ارتفاع مؤشر داو جونز الصناعي بنسبة 30 % تقريبا منذ تنصيب ترامب، لا يمكن الجزم بأن ارتفاعا لهذا الحد كان مدفوعاً بسياسات الرئيس. أما الأمر المؤكد فهو أن كل ما يرتفع قابل للهبوط، كما ذكرتنا بذلك شواهد أخيرة.

عند تفسير الانخفاضات الحادة في أسعار الأسهم، يعود الكثيرون بذاكرتهم لعام 2008 وما شهدته الأسواق من اضطراب أحاط بإشهار إفلاس بنك ليمان براذرز. لكن السابقة التاريخية الأكثر مضاهاة للظروف الحالية تتمثل في الاثنين الأسود الموافق 19 أكتوبر العام 1987.

كان الاثنين الأسود حدثا جللا: إذ لا يزال انهيار أسعار الأسهم الذي وقع يومها، والذي بلغت نسبته 22.6 %، أكبر انخفاض يحدث في يوم واحد في تاريخ مؤشر داو جونز الصناعي. فهذه النسبة تعادل اليوم ــ صدق أو لا تصدق ــ 6000 نقطة على مؤشر داو جونز.
إضافة إلى ذلك، فقد حدث انهيار العام 1987 على خلفية تشديد السياسة النقدية من قِبل الاحتياطي الفدرالي الأمريكي، الذي قام في الفترة ما بين يناير وأكتوبر عام 1987 برفع سعر الفائدة الفعلي على الأموال الفدرالية بنحو 100 نقطة أساس، ليزيد أكثر من تكلفة اقتراض وشراء الأسهم. أما في العام 2008، فقد حدث النقيض تماما، وهو هبـــوط أسعار الفائدة مع اقتراب شهر أكتوبر، مما عكس اقتصادا متدهورا. وهذا بالطبع بعيد عن ما يحدث الآن، مما يجعل عام 1987 القياس الأفضل والأقرب.
كما يلاحظ أيضا أن انهيار العام 1987 وقع في فترة كان الدولار فيها ضعيفا. ففي آخر الأسبوع السابق لوقوع الانهيار، أدلى وزير الخزانة جيمس بيكر ببعض التصريحات التي فُسرت على أنها تهديد بخفض قيمة الدولار. وكان بوسع بيكر حينها أن يحتج بأن تصريحاته قد انتُزِعَت من سياقها، كما فعل وزير الخزانة الحالي ستيفن منوشين في دافوس هذا العام. لكن من الأمور الكاشفة هنا أن البيع الكثيف والجزافي للأسهم في الاثنين الأسود بدأ خارج الولايات المتحدة، في دول يحتمل تأثرها سلبا بضعف الدولار، قبل زحفه إلى الولايات المتحدة.
العامل الأخير كان التداول الخوارزمي أو الآلي الذي لعب دورا في ذلك الانهيار. وقد عُرفت الخوارزميات المعنية هنا، والتي طُورت في جامعة كاليفورنيا في بيركلي، بأنها «تأمين لمحافظ الأوراق المالية»، حيث نصحت هذه الخوارزميات، من خلال استخدام النماذج الحاسوبية لتحسين نسب الأسهم إلى النقد، المستثمرين بتقليل الإقبال على الأسهم في الأسواق الهابطة كتدبير للحد من مخاطر هبوط أسعار الأوراق المالية. وبالتالي، فقد شجعت هذه النماذج المستثمرين على بيع أسهمهم في سوق ضعيفة، الأمر الذي أدى إلى تفاقم تقلبات الأسعار.
ورغم التشكيك في دور تأمين محافظ الأوراق المالية في ذلك الانهيار، يصعب استبعاد تأثيره على هبوط بالأسواق بمثل هذا القدر الكبير. وربما أضحى التداول الخوارزمي في القرن الواحد والعشرين أكثر تعقيدا، إلا أن هذا لا يمنع أن تكون له كذلك عواقب غير مقصودة، وقد يُفضي أيضا إلى تفاقم تقلب الأسعار.
مع كل المآسي التي شهدها وول ستريت العام 1987، لم يكن تأثير الأزمة على النشاط الاقتصادي مسموعا أو ذا صدى. فرغم هبوط إنفاق المستهلكين بصورة حادة في أكتوبر بسبب التأثيرات السلبية للثروة والغموض المتصاعد، سرعان ما استقر وعاد إلى مستوياته الفائتة، بينما ظل الإنفاق الاستثماري في مستواه دون تغير جذري.
فإلى مَن يرجع الفضل في تحجيم السقوط إذًا؟ أولا، الاحتياطي الفدرالي تحت رئاسة ألان جرينسبان، الذي كان قد تولى منصبه للتو، حيث أرخى البنك السياسة النقدية وطمأن المستثمرين بأن الانهيار لن يخلق مشاكل خطيرة في السيولة. وبالتالي هدأ تقلب الأسواق، وخفت حالة الغموض التي ارتبطت به، مما عزز ثقة المستهلكين.
ثانيا، لم يؤثر الانهيار على استقرار المؤسسات المهمة في المنظومة المالية. فقد استغلت البنوك الكبرى التي تتعامل مع المؤسسات السنوات الخمس التي أعقبت تفجر أزمة الدين بأمريكا اللاتينية لتقوية ميزانياتها العمومية. ورغم توصل اشتعال أزمة المدخرات والقروض، كان عدد مؤسسات المدخرات والقروض صغيرا للغاية، حتى كمجموعة، فلم تؤثر مشاكلها على الاقتصاد بصورة جوهرية.
إذا فما هي التأثيرات المحتملة لانهيار مماثل إذا وقع اليوم؟ في الوقت الحالي يبدو النظام المصرفي الأمريكي قويا بدرجة تكفي لامتصاص الضغط. لكننا نعرف أن البنوك التي تتمتع بعافية جيدة وقت ارتفاع السوق يمكن أن تسقط مريضة سريعا عندما ينعكس الوضع. وتوحي التحركات التي قام بها الكونجرس لإضعاف قانون دود-فرانك، بإعفاء بنوك كثيرة من شرط الخضوع لاختبار الإجهاد، بأن هذه العافية الشديدة في ظاهرها لا ينبغي التسليم بها.
فضلا عن ذلك، فإن الحيز المتاح لخفض أسعار الفائدة اليوم بات أضيق مما كان عليه في العام 1987، عندما كان سعر الفائدة على الأموال الفدرالية يتجاوز 6 %، وسعر الفائدة الأساسي الذي كانت تتقاضاه البنوك الكبرى فوق مستوى 9 %. بالتأكيد سيقوم الاحتياطي الفدرالي، حال حدوث هبوط حاد في السوق، بتفعيل «نهج جرينسبان-برنانكي» من خلال توفير كميات كبيرة من السيولة للوسطاء المتعسرين. لكن تبقى احتمالية تعامل الاحتياطي الفدرالي برئاسة جاي باول مع مثل هذا الهبوط على نحو خلاق كما فعل برنانكي في العام 2008 ــ حينما قدم مثلا قروضا «متتالية مساندة لبعضها» للبنوك المتعثرة غير الأعضاء ــ سؤالا مفتوحا.
في النهاية، أقول إن جزءاً كبيراً من الأمر سيعتمد على رد فعل الرئيس. فهل سيكون رد فعل ترامب مشابها لتعامل فرانكلين روزفلت مع الأزمة العام 1933، عندما طمأن العامة بأن الشيء الوحيد الذي يجب أن يخافوه هو الخوف ذاته؟ أم أنه سيبحث عن شخص آخر ليحمله مسؤولية انهيار مؤشره الاقتصادي المفضل، ويطلق لنفسه العنان لمهاجمة الديمقراطيين، والحكومات الأجنبية، والاحتياطي الفدرالي؟ إن رئيسا يلعب لعبة إلقاء اللوم على الآخرين لن يزيد المشكلة إلا تعقيداً وتفاقماً.

أستاذ في جامعة كاليفورنيا في بيركلي