«إيكيغاي»

مقالات رأي و تحليلات الثلاثاء ٢٧/فبراير/٢٠١٨ ٠٣:٢٠ ص
«إيكيغاي»

لميس ضيف

في قرية أوجيمي اليابانية، المُلقبة بقرية المعمّرين، يُسمّى المسن البالغ من العمر 80 عاماً شابا في قرية تتجاوز أعمار قاطنيها الـ100 عام! الأمر الذي أثار فضول الكاتب فرانسيسك ميراليس ودفعه لإجراء مقابلات هناك ليكتب كتابه «إيكيغاي: السر الياباني لحياة طويلة وسعيدة».

و«إيكيغاي» هي تعبير ياباني لا يوجد له رديف في اللغة العربية. يعني العيش لهدف أكبر منك، والعمل بدافع حب العمل لا المادة فحسب، والارتباط بالطبيعة وإيجاد السعادة في العطاء».
استحضرت ذاكرتي عند القراءة عن الإيكيغاي قصة ذاك الفتى الذي لمحَتْه الأم تريزا عند زيارتها للهند في أحد مصانع الحديد والخردوات. كان الفتى يعمل في قسم تصنيع البراغي، يضحك ويعمل بحماس وهو يُغنّي رغم ظروف العمل القاسية في المصنع. سألته الأم تريزا محاولة فتح حديث معه: «ماذا تعمل هنا؟»، فأجابها: «أنا أصنع طائرات» فتعجّبت من رده. فقال لها موضحاً أن البراغي التي يصنعها تذهب لمصنع الطائرات وبالتالي فهو -شخصيا- مَن يساهم في بناء الطائرة التي ستعود بها من الهند. لم ينظر هذا الفتى لنفسه بأنه عامل في مصنع متواضع، بل تملّكه الفخر لأنه جزء من آلية صنع شيء مُبهر كالطائرة.
وعلى مدار عقود، استطاعت المجتمعات الاشتراكية أنْ تُقنع أثرى أثريائها وأهم علمائها بالعيش في شقق ضيّقة والأكل والحياة بتواضع جم، يبدو ذلك عصي الفهم لديّ عندما يتعلّق الأمر بالمجتمع الروسي مثلا الذي جُبلت ذائقة الناس فيه على الأبهة والفخامة، ولكن الفكر الاشتراكي نجح في ذلك لفترة طويلة لأنه أقنع تلك الشرائح بأنها جزء من نهضة الاتحاد السوفييتي وسعيه لتبوؤ مكانه الطبيعي كقائد للعالم المعاصر.
فالمرء يجد الراحة، وبعضا من السعادة، في الخروج من صندوق حياته ومصالحة الضيّقة. والحياة كجزء من مشروع أهم منه ومن تاريخه القصير. لذا يتحمّل اليابانيون يومهم الذي يبدأ بـ«زوما سوشي» وهو مصطلح يعبّر عن وضع الموظفين في القطارات إذ يُحشرون كحبات الرز في السوشي. ثم يعملون لساعات إضافية فوق المعدّل الطبيعي بـ80 ساعة تقريبا. كما أنهم من عرَّفوا العالم بمرض اسمه «كاروتشي». وهو الموت من كثرة العمل الذي يحصد أرواح 166 شخصا كل شهر في اليابان!
إنها شعوب تقدّس العمل، وتعرف هدفها في الحياة وتجد في هذا الهدف قيمتها، وسعادتها، ويفخر كل فرد فيها بأنه وجد «الإيكيغاي» الخاصة به. وهي الهدف الأسمى الذي له يعيش سواء كان نهضة أمته أم مساعدة من حوله.
لدينا الكثير لنتعلّمه من تلك الحضارات العريقة التي سبقتنا، والتي خاضت تجارب الحرب والهزيمة ووقفت بعدها وهي أكثر قوة وصلابة. ونختم هنا بالعبارة استخلصها الكاتب فرانسيسك عن الإيكيغاي إذ قال «إنهم يؤمنون أن الحياة ليست مشكلة يتعيّن عليك حلها، المهم هو أن يكون الشيء الذي يُبقيك مشغولاً يجري وسط الناس الذين يحبونك».