كتاب في العاصفة

مقالات رأي و تحليلات الأحد ١٨/فبراير/٢٠١٨ ٠٣:١٢ ص
كتاب في العاصفة

أحمد المرشد
لأن الدنيا ـ كما يقولون ـ حظوظ، فإن بعض الكتب تنال حظوظاً من الذيوع والانتشار، وتحقق لأصحابها شهرة واسعة، ومكانة رفيعة في دنيا الأدب، على الرغم من أنها قد لا تكون أهم أو أكثر قيمة من غيرها، مما كتبه أصحابها أنفسهم، أو كتبه غيرهم، لكن مصادفة، تتعلق بالمناخ العام الذي نشر فيه الكتاب، تثير اهتمام الناس به، بشكل مبالغ فيه، ولا يمكن تقصي كل أسبابه، تدفعهم للإقبال على قراءته، وتحول أصحابه بين يوم وليلة إلى نجوم في عالم الأدب.‏

والأمثلة على ذلك كثيرة، ربما كان من أشهرها، كتاب في الشعر الجاهلي للدكتور طه حسين الذي أثار ضجة واسعة عند صدوره في منتصف العشرينيات بسبب جدة ـ وجرأة ـ الأفكار التي وردت فيه، وتعرض بسببها لحملة عنيفة من الهجوم، جعلت اسمه يتصدر ـ منذ ذلك الحين ولنصف قرن بعد ذلك ـ المشهد الثقافي العربي، وكان ذلك هو ما حدث أيضا لكتاب الإسلام وأصول الحكم الذي كتبه الشيخ علي عبدالرازق ونشر أثناء المحاولات التي كانت تجري ـ في منتصف عشرينيات القرن الماضي ـ لإعادة إحياء الخلافة الإسلامية، بعد إلغائها في تركيا، فأثار اعتراضه عليها عاصفة فكرية وسياسية، انتهت بإقالة الحكومة، وقصيدة البكاء بين يدي زرقاء اليمامة التي كانت أول بيان شعري يتناول هزيمة 1967، والتي رفعت اسم كاتبها الشاعر أمل دنقل إلى صدارة المشهد الشعري.‏ وعلى العكس من ذلك يترصد الحظ السيئ بعض الكتب، فلا تنال حظاً من الاهتمام والذيوع الذي كان يتوقعه أصحابها وناشروها، بسبب تغير مفاجئ في الظروف خلال الفترة القصيرة التي فصلت بين كتابتها ونشرها، وانقلاب غير متوقع في المناخ السياسي حوله من دافئ ممطر شتاء، حار جاف صيفا، إلى كتيب على مدار السنة!‏ من بين هذه الكتب كتاب بعنوان دراسات حول تمثيل قوى الشعب العامل في اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي العربي، ومؤلفه هو المرحوم علي صبري، أحد أبرز الضباط الأحرار الذين شاركوا في ثورة 23 يوليو 1952، وأول مدير لمكتب الرئيس عبدالناصر، وأحد أبرز الشخصيات في عهده، فكان وزيراً ورئيساً للوزراء وأميناً عاماً للاتحاد الاشتراكي العربي، وأصبح نائبا لرئيس الجمهورية في عهد سلفه الرئيس السادات، وهو المنصب الذي انتقل منه إلى السجن، ليقدم لمحكمة ثورية حكمت عليه بالإعدام بتهمة الخيانة العظمى، بسبب صراع على السلطة، بينه وبين الرئيس السادات، ثم خفف الحكم إلى الأشغال الشاقة، قضى منها على صبري عشر سنوات في السجن، قبل أن يخرج منه، ليموت بعد سنوات قليلة.‏ وتعود قصة هذا الكتاب إلى ربيع عام 1967، عندما بدأت جريدة الجمهورية تنشر فصوله، على شكل مقالات تتصدر صفحتها الأولى على امتداد أسابيع، يتصدرها اسم علي صبري الرجل القومي في النظام، الذي ترك منصب رئيس الوزراء في خريف 1965، ليتولى منصب الأمين العام للاتحاد الاشتراكي.‏ وخلال شهور كان بعقليته المنظمة ودأبه على العمل، قد أخرج التنظيم السياسي الوحيد آنذاك من حالة الركود التي حطت عليه منذ إنشائه العام 1962، وحوله من منظمة بيروقراطية إلى منظمة نصف حزبية ونصف بيروقراطية، اجتذبت إليها عناصر كثيرة، ممن كانت تتصور أن النظام الناصري، بعد صدور القرارات الاشتراكية في العام 1961، وصدور الميثاق الوطني العام 1962، يسعى لبناء حزب سياسي له نظرية سياسية تتمثل في الميثاق، وأن هذا الحزب يمكن أن يكون المجال الذي تشارك من خلاله في تحقيق أهداف الثورة، وفي حمايتها من الأخطاء التي تسيء إليها.‏ وكان الخطأ الأساسي الذي وقع فيه علي صبري أنه سعى لإعادة بناء وتنظيم الاتحاد الاشتراكي العربي، على أساس الولاء لشخصه، فاختار الأفراد الذين يشكلون معظم المستويات القيادية للاتحاد على هذا الأساس، خصوصاً أن هذه المستويات كانت تتشكل بالتعيين وليس بالانتخاب، ولأن أجنحة أخرى في السلطة كانت تحتفظ لأنصارها والموالين لها بمقاعد في هذه التشكيلات، فقد تحول الاتحاد الاشتراكي إلى ساحة للصراعات بين أجنحة الحكم.‏ وعلى الرغم من ذلك بعث نشاط علي صبري درجة عالية من الحيوية بين جنبات الاتحاد، خصوصا أن الخطة السرية التي وضعت لبناء تنظيم طليعة الاشتراكيين ليكون الجهاز القيادي داخل الاتحاد الاشتراكي، كانت قد انتهت، وكان من دلائل هذه الحيوية أن الاتحاد الاشتراكي استطاع في خريف 1966، أن يقتنص لنفسه إحدى الصحف اليومية الثلاث، التي كانت منذ تأميمها العام 1960، مملوكة له نظريا، لتكون لسان حاله، وهي جريدة الجمهورية التي كلف علي صبري بالإشراف عليها سياسيا، واختار الكاتب الصحفي والروائي فتحي غانم رئيسا لتحريرها!‏ وفي هذا السياق بدأ علي صبري ينشر سلسلة مقالاته على صدر الصفحة الأولى لـ الجمهورية ولأن الموضوع الذي كان يشغل مصر آنذاك، على صعيد التنظيم السياسي، كان استكمال بناء المستويات القيادية للاتحاد الاشتراكي، بتعيين أعضاء اللجنة المركزية للاتحاد، فقد اتخذه علي صبري مدخلا ليثير عدداً من القضايا الشائكة، حول تعريف تحالف قوي الشعب العاملة، التي كان يتكون منها الاتحاد، والتي كانت أساساً للنظام الدستوري آنذاك، وهي العمال والفلاحون والجنود والمثقفون والرأسمالية الوطنية، داعياً إلى ضبط هذه المصطلحات، ومشيراً إلى أن التعريفات القانونية والإجرائية التي كانت قائمة آنذاك لهذه القوي تحول التحالف إلي حزب للطبقات غير الشعبية، وليس لقوى الشعب، فاعتبار من يملك أو يحوز 25 فداناً فلاحاً، وكل من يتقاضى أجراً عاملاً، وكل من يستغل العمل المأجور رأسمالياً وطنياً، كان في رأيه أمراً تنبغي إعادة النظر فيه، قبل تشكيل اللجنة المركزية، وبعد إعادة النظر في الميثاق الذي كان محدداً له العام 1970.‏ وعلى الرغم من أن علي صبري كان يطرح أفكاره على شكل تساؤلات وموضوعات للنقاش، فإنها أثارت اهتماماً واسعاً، بسبب مكانة كاتبها وبسبب طابعها الراديكالي الذي أسعد الذين كانوا يلحون على مزيد من الاشتراكية، وأقلق الطبقات الوسطى والاتجاهات اليمينية بسبب ما اعتبروه رطانة اشتراكية متطرفة، بل وأثارت عاصفة من التوتر داخل النظام نفسه، بسبب ما أثاره علي صبري في هذه المقالات من دعوة إلى للتنظيم داخل تنظيمات الاتحاد الاشتراكي!‏ وتوقفت مقالات علي صبري في بداية مايو 1967، وتم جمعها في كتاب ينشر تحفه، وكان مقدرا أن يثير الكتاب ضجة حين يصدر، تقتصر بالطبع علي همسات المعارضين، وتتسع فقط لمقالات المؤيدين، لولا أن نسخ الكتاب ما كادت تخرج من المطبعة، حتى تصاعد الموقف السياسي الذي انتهى بهزيمة 1967، ليكون إخراج علي صبري من الاتحاد الاشتراكي بعض آثارها، ولتصدر الأوامر بوضع الكتاب في المخازن، ليظل بها إلى أن عثرت بالمصادفة على نسخة نادرة منه، احتفظت بها في خزانة كتبي على سبيل التذكار، ثم عثرت عليها مصادفة هذا الأسبوع، فأعدت قراءته، لأقول بعد أن أعيده إلى مكانه في الخزانة صحيح، إن الكتب.. كالدنيا حظوظ.‏

كاتب ومحلل سياسي بحريني