الأسطورة الخالدة

مقالات رأي و تحليلات الأحد ١١/فبراير/٢٠١٨ ٠٤:٢٢ ص
الأسطورة الخالدة

أحمد المرشد

عندما كتبت عن الإرهاب الأسبوع الفائت نويت استكمال سلسلة أخرى عن التطرف ولكن عن الرئيس الأمريكي دونالد ترمب، بسبب قراراته «غير الموزونة والموتورة «حيال القضايا العربية ومنها بالتحديد القضية الفلسطينية وقراره نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس واعتبارها عاصمة لإسرائيل، ولكني تراجعت عن الكتابة في هذا الموضوع، لم يكن مبعث تراجعي سياسياً بل أمراً آخر وجدته أكثر أهمية من ترامب بقراراته المتناقضة، فقد حلت الذكرى الـ43 لرحيل سيدة الغناء العربي عن عالمنا، وبما أنني من عشاقها، فتخليت عن الكتابة عن جنون ترامب وارتأيت أن أكتب عن أم كلثوم فمن حق أم كلثوم علينا أن نحتفي بذكراها وهي الإنسانة التي لن تغيب عن ذكرانا.

فأم كلثوم لا تزال تتربع على عرش الغناء العربي بلا منافس رغم مرور 43 عاماً على رحيلها، نعم لم ينازعها حتى الآن أيُّ من مئات من الأصوات التي ظهرت في مصر والوطن العربي، فلم يستطع أي مطرب أو مطربة أن ينتزع اللقب من أم كلثوم. فقد قدمت «الست» على مدى عمرها الفني الذي يقترب من نصف قرن تقريبا مئات الأعمال الغنائية من قصائد وأغان لا تزال تعيش في وجداننا حتى يومنا هذا. ليس هذا فقط، فأغاني أم كلثوم تعيش فينا وتؤثر في مشاعرنا وتحرك أحاسيسنا، فعشنا فيها حباً وغراماً وعشقاً، ولن أكرر ما كتبته مراراً من أن أغاني أم كلثوم علمتنا الحب حتى وإن كانت تغني للهجر والهجران، فهي كانت تحب وتبث في قلوبنا معاني الحب، فأوجدت فينا حالة من النشوة والبهجة. فهي بهجة الماضي والحاضر والمستقبل وروح الأمل فينا، فلا استطيع أنا أو غيري أن نقول إنها تنتمي للماضي، فهي حاضرة معنا اليوم وتعيش معنا اللحظة الراهنة بكل تجلياتها وآهاتها، وهي تتخطى التاريخ لتمر عبر سنواته إلى المستقبل، إنها أم كلثوم عابرة الأزمنة والحدود.

ومن لم يتذكر كل أغانيها العاطفية وحتى عندما غنت لمصر والوطن العربي كانت مطربة فوق العادة، فكل أعمالها تتحدث عن نفسها وستبقى كما يقول المصريون بقاء الإهرامات وتاريخهم العريق، فهي خالدة مثل نهر النيل، ولم لا؟..فالمصريون يعتبرونها نهراً متدفقاً من الحب، فليس بالماء وحده يعيش المرء.
لم تغلق أم كلثوم الباب أمام الأصوات الشابة ولكنها شجعتهم، فهي حفرت في جيلها وما تبعه من أجيال حتى يومنا هذا منطق الحب والحياة وقد استفاد كل من جاء بعدها بهذا المنطق، ولكن هذه الفنانة العظيمة لا تزال تحتفظ بعبقرية كتبت باسم عبقرية «أم كلثوم»، فرغم أصولها الريفية فهي اكتسبت ثقافة نادرة مكنتها من حسن انتقائها لقصائدها وأغانيها.. ولكن لا ننكر أن عصر أم كلثوم كان زاخراً بشعراء وملحنين عظام، شكلوا جميعاً حلقة فنية نادرة الحدوث. فمن أين نأتي حالياً بملحنين مثل أبو العلا محمد ورياض السنباطي وزكريا أحمد ومحمد عبدالوهاب وبليغ حمدي والقصبجي ومحمد الموجي وسيد مكاوي؟..وأين العظام أحمد شوقي وأحمد رامي وأحمد شفيق كامل وعبد الفتاح مصطفى وعبدالمنعم السباعي وعبدالوهاب محمد وكامل الشناوي ومأمون الشناوي وإبراهيم ناجي وعبدالله الفيصل ومحمد إقبال ومحمد يونس القاضي؟.. وأين محمود حسن إسماعيل وحافظ إبراهيم ومرسي جميل عزيز وبيرم التونسي وجورج جرداق؟.. وبغض النظر عن الشعراء والملحنين العظام، فقد صنعت أم كلثوم مناخاً غنائياً سخياً حولها، لتتربع متفردة على عرش الغناء العربي في الماضي والحاضر والمستقبل.. وربما نتحدث عن سحر شخصيتها، فهي لا تزال متفردة وخلاقة حتى بعد 43 عاماً على رحيلها عن دنيانا ولكنها ساكنة فينا أبد الدهر، وحتى لا نظلمها سنقول إنها بلغت مكانة لم يبلغها سواها حتى وإن كنا لا نقدسها حتى لا يتهمنا أحد بالزندقة في عصر يكثر فيه الإرهابيون والتكفيريون، فوقتها لم نشهد مثل هذه الأجواء الملبدة، وكل جماعة تكفر الأخرى..فهي «الأيقونة» التي جمعت العرب وزعماءهم على قلب فنانة واحدة، فصوتها يمر عبر كل أرجاء الوطن العربي بلا حدود وهمية، فقد كسرت الحواجز والحدود، كما تخطت العصور والأجيال لتكون بحق الأسطورة والأيقونة الدائمة.
لقد اعتدت في كل كتاباتي عن أم كلثوم أن استعين بإحدى أغانيها أو قصائدها، وكانت السلسلة الأخيرة عن الذكريات، كل هذا لأعيش معها وبها، فهي اخترعت قانوناً خاصاً بها مع جمهورها لتتربع على قلبه وعقله وفكره ووجدانه، وعممت صوتها على الجميع، ولم تخضع لسلطة أو نظام وهي التهمة التي حاول غلمان كل الأنظمة أن يلصقونها برائدة الغناء العربي، ليبرأها جمهورها من كل حدب وصوب، فهي صاحبة العصمة، القوية، صاحبة أقوى حنجرة أنثوية في التاريخ، وملكت قلب الفقير والغني، البسيط وصاحب السلطة والحظوة، فهي مثل مياه نهر النيل ملك الجميع، تمتلك قلوبهم جميعاً، بكلمة منها وآهه تتنهد بها، فعاشت عصرها مدللة وبعد وفاتها أسطورة، فهي لا تغادر ذاكرتنا، استقرت فيها وتربعت، فملكت القلوب واستوطنت فيها بعد أن وهبتنا نتاج أغلى حنجرة، أحبتنا فأحببناه وبادلناها حباً بحب، فنسجت علاقة خاصة أو معادلة متفردة باسمها مع الجمهور.
لقد عاشت أم كلثوم تجربة طربية وغنائية مليئة بالمحن والأشجان، فحياتها لم تخل من منغصات ومشكلات وأزمات، ولكنها استطاعت التغلب على كل هذا بفضل حبها وعشقها لفنها وإخلاصها لجمهورها الذي منحها تاج المحبة ورسم منها أيقونة خالدة مثل الأساطير اليونانية. وقد علمتنا تلك السيدة معنى «الآهة أو الآهات»، ونوعت في إلقائها مرة بترفيع الصوت ومرة بتضخيمه حتى أمتعتنا، فهي بحق تجربة خالدة لن يجود بها الزمان مرة أخرى على الأقل في الأزمنة القريبة، ويكفيها لحظة تتلاقي فيها مع جمهورها عبر لحظة انفعالها واندماجها في الأداء، ليتجلى صوتها حبا في الله عبر أغانيها وابتهالاتها الصوفية وفي مدح سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في «ولد الهدى والرضا والنور وسلوا قلبي وحديث الروح ورباعيات الخيام والقلب يعشق كل جميل».. كما أنها لم تتخل عن الوطن في أي لحظة من اللحظات لتغني له على بلد المحبوب وديني ومصر تتحدث على نفسها وطوف وشوف».. ثم لم تتخل عنا نحن جمهورها العريض لتعلمنا الحب بكل معانيه سواء من ألف عام تقريبا بـ»آراك عصي الدمع» لأبي فراس الحمداني، لتصل إلى شعراء عصرها المبدعين الذين كتبوا لها «يا ظالمني ورق الحبيب وسهران لوحدي ويا مسهرني ودليلي احتار وأمل حياتي وذكريات قصة حبي وأنت عمري وفكروني وأمل حياتي وظلمنا الحب وسيرة الحب وفات الميعاد» وغيرهما من إرثها الذي لا ينضب مثل شلال أو بئر المياه الذي يظل يروينا إلى يوم الدهر.. وإذا كنت أنوي الكتابة عن فات الميعاد، فقد سرقني الوقت في الكتابة عن الأيقونة نفسها، لأعد القراء الأعزاء الكتابة عن رائعة أم كلثوم مع مرسي جميل عزيز وبليغ حمدي في أقرب فرصة.

قبل الأخير..

يهل علينا عيد الحب يوم الأربعاء المقبل، ولعلي أفكر كل المحبين في عالمنا العربي بالحب، فالحب هو الينبوع الذي يروي الحياة مثل الماء الذي يرتوي منه الظمآن، فينبوع الحب لا ينقطع طالما ظلت القلوب متحابة ومتسامحة وعواطفها جياشة.. أتحدث عن الحب بكل معانيه، بين حبيبين وزوجين وبين الأسر والعائلات في الوطن الواحد، حتى بين الأوطان، فالحب معنى كبير نعيش فيه، فحب الوطن واجب والانتماء له فريضة، وحب الأسرة فرض حتى نخلق واطنا ومجتمعا قويا ومتماسكا، وحب الشعب لقيادته دليلا على الوفاء المتبادل بين طرفي معادلة أبدية، قيادة تخطط وتجتهد لإسعاد شعبها، وشعب يتفانى في العطاء والإخلاص لقيادته، حتى تستمر الحياة جميلة.

كاتب ومحلل سياسي بحريني