سباق المدن الكبرى في الصين

مقالات رأي و تحليلات الثلاثاء ٣٠/يناير/٢٠١٨ ٠٤:٠٦ ص
سباق المدن الكبرى في الصين

تشانج جون

في الآونة الأخيرة كانت الصناعات التقليدية في الصين تعاني. ففي السنوات الخمس الأخيرة، شهدت المنطقة الشمالية الشرقية في البلاد ــ التي كانت ذات يوم مركزاً للصناعات الأساسية مثل النفط والصلب ــ انحداراً متسارعاً، وكانت هذه أيضاً حال مراكز الموارد المعدنية الغنية في أماكن مثل خبي ومنغوليا الداخلية. وعلى مدار العقد المنصرم، انكمش نحو ثلث مدن الصين الستمائة. كما تضاءلت آمال وتطلعات التجمعات السكانية الريفية المتناثرة بعيدا عن المدن الكبرى في الصين. ولكن كل هذه الأنباء السيئة هي في واقع الأمر نتيجة لما يُعَد على نطاق واسع خبرا طيبا للغاية: فقد بدأ التحول الاقتصادي في الصين يتقدم.

في السنوات الأخيرة، أصبح اقتصاد الصين معتمداً بشكل متزايد على صناعات التكنولوجيا الفائقة والخدمات الحديثة، بما في ذلك الإنترنت عبر الهاتف المحمول، والذكاء الاصطناعي، والسيارات الذكية، والطائرات بدون طيار، والروبوتات، والواقع الافتراضي، وتصنيع الأجهزة القابلة للارتداء، والتكنولوجيا الخضراء، وغير ذلك الكثير. في الوقت نفسه، تركزت الوظائف والنمو على نحو متزايد في بعض المدن الكبرى العالية الإنتاجية، الأمر الذي جعلها جاذبة للقوى العاملة الماهرة ورأس المال الاستثماري ــ وأدى إلى ترك مراكز الصناعات التقليدية للغبار.
كان النمو السريع الذي شهدته صناعات التكنولوجيا الفائقة في الصين بارزا بوضوح في وقت سابق من هذا الشهر في معرض الإلكترونيات الاستهلاكية السنوي في لاس فيجاس بولاية نيفادا، حيث شكلت الشركات الصينية نحو 40% من كل العارضين ــ وهو الرقم الذي لم يكن أحد ليتصوره قبل خمس سنوات فقط. والعديد من هذه الشركات مقرها في مدينة شنتشن، وهي أول منطقة اقتصادية خاصة في الصين والتي أصبحت الآن المدينة الأكثر إبداعا في البلاد.
لكن شنتشن ليست وحدها. فالعديد من المدن الصينية الأخرى ــ على سبيل المثال، بكين، وشنغهاي، وقوانجتشو، وتشنجدو، وشيان ــ تعمل أيضا على تعزيز الصناعات المتطورة. الواقع أن المنافسة القائمة بين هذه المدن على توليد نمو أقوى من نظيراتها ــ وهي المسابقة التي دعمتها الحوافز السياسية التي وفرتها الحكومة المركزية لفترة طويلة للمسؤولين المحليين ــ لعبت دورا قياديا في تعزيز التصنيع السريع والتحول البنيوي الجاري في الصين.
من الصعب في الأمد القريب التوصل إلى تقييم دقيق للدور الذي لعبته المنافسة بين المناطق الحضرية في تعزيز تطور صناعات التكنولوجيا الفائقة في الصين، وإن كان الأمر لا يخلو بلا شك من بعض الآثار السلبية. ولكن في الأمد البعيد، تعود مثل هذه المنافسة الأفقية بنتائج إيجابية في عموم الأمر، وذلك بسبب الحوافز التي تخلقها لمسؤولي الحكومات المحلية والتي تحملهم على التفكير بشكل خَلّاق، وممارسة التجريب بفعالية، وملاحقة سياسات متطلعة إلى المستقبل.
الواقع أن الدراسات التي يجريها أهل الاقتصاد، وأنا بينهم، أظهرت أن المنافسة بين الحكومات المحلية قدمت إسهاما كبير للتصنيع السريع الذي شهدته الصين في تسعينيات القرن العشرين. والسبب الأساسي وراء ذلك هو أن الأرض ــ التي تعلب دورا مهما في المراحل المبكرة من التصنيع ــ تملكها وتديرها إلى حد كبير الحكومات المحلية في الصين. وعلى هذا فقد استخدمت حكومات المقاطعات الصينية الأرض كأداة مؤثرة لاجتذاب الاستثمار المباشر الأجنبي، وخاصة في منطقة دلتا نهر اللؤلؤ ودلتا نهر يانجتسي في ثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين.
على مدار العقد الماضي، استمرت هذه المنافسة الإقليمية، ولكنها كانت على نحو متزايد بقيادة مدن كبرى. وكان ارتفاع الأجور وانخفاض العائدات على رأس المال بشكل حاد في القطاعات الصناعية التقليدية من الأسباب التي أبرزت الحاجة إلى تسريع عجلة التحديث ــ وهي الضرورة الحتمية التي انعكست بشكل ثابت في استراتيجيات الإصلاح التي تتبناها الحكومة المركزية. ولهذا، كانت المدن الكبرى في الصين تعمل على تعزيز الإبداع وصناعات التكنولوجيا الفائقة والخدمات الحديثة في الاقتصاد الجديد.
كانت شنغهاي إحدى المدن الكبرى في الصين لفترة طويلة. ولكن في السنوات الأخيرة، أصبحت مدينة شنتشن مركزا تكنولوجـــيا، كـــما تُعَد مدينة هانجتشو، حيث مقر شــركة علي بابا، نجما صاعدا في مجال الاقتصاد الرقمي.
في العام 2017، بلغ الناتج المحلي الإجمالي في شنتشن نحو 2.2 تريليون يوان (343 بليون دولار أمريكي)، وهذا أعلى من نظيره في هونج كونج وقوانجتشو، ولا تفوقها سوى شنغهاي وبكين. والآن أضاف المسؤولون في شنغهاي وقوانجتشو (عاصمة إقليم قوانجدونج، حيث تقع مدينة شنتشن) الحافز لملاحقة سياسات جديدة داعمة للنمو والإنتاجية، بما في ذلك مبادرات مطورة لاجتذاب المبادرة التجارية ورأس المال البشري.
كانت المدن الكبرى في الصين عاكفة على إنشاء وتنفيذ حزم سياسات تهدف إلى دعم الشركات البادئة المبدعة، فضلا عن سلسلة من التدابير لاجتذاب المواهب، بما في ذلك الحوافز الضريبية الفردية، وإعانات دعم شراء المساكن، وفوائد جذابة في مجالي الرعاية الصحية والتعليم. ومؤخرا دعا قادة عِدة مدن كبرى، بما في ذلك شنغهاي، إلى تعزيز الالتزام بمثل هذه السياسات ودمجها في الجهود الأعرض لتحسين بيئة الأعمال المحلية. وقد نجحت هذه الاستراتيجيات الشاملة في تعزيز الدور الذي لعبته المدن الكبرى في الصين في دفع عجلة التغيير البنيوي، وساهمت في تحولات كبرى في مصادر الدينامية الاقتصادية في الصين.
بطبيعة الحال، تنطوي مثل هذه المنافسة على مخاطر ــ وخاصة الجهود القصيرة النظر لتعزيز النمو بطرق تؤدي إلى تفاقم سوء تخصيص الموارد، والقدرة الفائضة، والروافع المالية المفرطة. ولكن حكومة بكين تحاول من جانبها التخفيف من حدة هذه المخاطر، من خلال تحويل تركيزها من تشجيع أعلى معدل نمو ممكن إلى ضمان نمو أعلى جودة. وفي أغلب الحالات، ينشأ مثل هذا النمو المستدام من ملاحقة المدن الكبرى لصناعات التكنولوجيا الفائقة والخدمات الحديثة.
وتظل المدن الصينية تشكل مصادر حيوية للنمو الاقتصادي في الصين. ورغم أن بعض هذه المدن سوف تعاني بلا شك، فإن غيرها ستكون بمثابة محركات مهمة للتحول الاقتصادي في الصين، فتغذي الدينامية في مختلف أنحاء الاقتصاد العالمي.

عميد كلية الاقتصاد في جامعة فودان، ومدير مركز الصين للدراسات الاقتصادية، وهو مركز بحثي يتخذ من شنغهاي مقرا له.