فرانسيس فوكوياما
مع اقتراب بداية عام 2016 تجري مسابقة تاريخية حول نماذج التنمية المتنافسة ــ أو استراتيجيات تعزيز النمو الاقتصادي ــ بين الصين من جهة والولايات المتحدة والبلدان الغربية على الجهة الأخرى. ورغم أن هذه المسابقة كانت محتجبة إلى حد كبير عن مراصد الرأي العام، فسوف تحدد نتيجتها مصير قسم كبير من أوراسيا لعقود قادمة.
يدرك أغلب الغربيين أن النمو تباطأ بشكل كبير في الصين، من أكثر من 10% سنوياً في العقود الأخيرة إلى أقل من 7% اليوم (بل وربما أقل). ولم يجلس قادة الصين مكتوفي الأيدي في الاستجابة لهذا التطور، فسعوا إلى التعجيل بالتحول من نموذج النمو الموجه للتصدير والضار بالبيئة والذي يعتمد على الصناعات التحويلية الثقيلة إلى نموذج قائم على الاستهلاك المحلي والخدمات.
بيد أن خطط الصين لا تخلو أيضاً من بُعد خارجي كبير. ففي عام 2013، أعلن الرئيس شي جين بينج عن مبادرة ضخمة أسماها "حزام واحد، وطريق واحد"، وهي المبادرة التي من شأنها أن تحول الجوهر الاقتصادي لأوراسيا. يتألف عنصر الحزام الواحد من شبكة من السكك الحديدية تمتد من غرب الصين عبر آسيا الوسطى ومن ثَم إلى أوروبا والشرق الأوسط وجنوب آسيا. أما عنصر الطريق الواحد الذي يحمل مسمى غريباً فيتألف من موانئ ومرافق الهدف منها زيادة حركة مرور البضائع المنقولة بحراً من شرق آسيا وربط هذه الدول بالحزام الواحد، الأمر الذي يوفر لها طريقاً لنقل بضائعها برا، بدلاً من عبور محيطين، كما يحدث حاليا.
وقد صُمِّم البنك الآسيوي للاستثمار في البنية الأساسية الذي تقوده الصين، والذي رفضت الولايات المتحدة الانضمام إليه في وقت سابق من هذا العام، لتمويل مبادرة حزام واحد وطريق واحد جزئيا. ولكن احتياجات المشروع الاستثمارية سوف تجعل موارد المؤسسة الجديدة المقترحة تبدو ضئيلة للغاية بالمقارنة.
الواقع أن مبادرة حزام واحد وطريق واحد تمثل انحرافاً لافتاً للنظر في السياسة الصينية. فللمرة الأولى، تسعى الصين إلى تصدير نموذج التنمية إلى بلدان أخرى. كانت الشركات الصينية بطبيعة الحال بالغة النشاط في مختلف بلدان أميركا اللاتينية ومنطقة جنوب الصحراء الكبرى في أفريقيا في العقد الفائت، فاستثمرت في السلع الأساسية والصناعات الاستخراجية والبنية الأساسية اللازمة بغرض نقلها إلى الصين. ولكن مبادرة الحزام الواحد والطريق الواحد مختلفة: إذ يتلخص الغرض منها في تطوير القدرة الصناعية والطلب الاستهلاكي في بلدان خارج الصين. وبدلاً من استخراج المواد الخام، تسعى الصين إلى تحويل صناعتها الثقيلة إلى البلدان الأقل نموا، وهو ما من شأنه أن يجعلها أكثر ثراءً ويشجع الطلب على المنتجات الصينية.
يختلف نموذج التنمية في الصين عن ذلك الشائع حالياً في الغرب. فهو يقوم على الاستثمارات الضخمة التي تقودها الدولة في مشاريع البنية الأساسية ــ الطرق والموانئ والكهرباء والسكك الحديدية والمطارات ــ التي تسهل عملية التنمية الصناعية. ويستنكر خبراء الاقتصاد الأميركيون هذا المسار الذي يعتمد على البناء ثم انتظار العائد، نظراً لمخاوف تتعلق بالفساد واستغلال المنصب عندما تشارك الدولة بقوة. وعلى النقيض من ذلك، ركزت استراتيجية النمو في الولايات المتحدة وأوروبا في السنوات الأخيرة على الاستثمارات الضخمة في مجالات الصحة العامة، وتمكين المرأة، ودعم المجتمع المدني العالمي، وتدابير مكافحة الفساد.
ورغم أن هذه الأهداف الغربية جديرة بالثناء، فلم تتمكن أي دولة من تحقيق الثراء من خلال الاستثمار فيها وحدها. صحيح أن الصحة العامة تشكل شرطاً مسبقاً مهماً لتحقيق النمو المستدام؛ ولكن إذا كانت عيادة ما تفتقر إلى الإمدادات التي يمكنها التعويل عليها من الطاقة الكهربائية والمياه النظيفة، أو كانت الطرق المؤدية إليها رديئة، فلن يستفيد منها الناس كثيرا. وقد حققت استراتيجية الصين القائمة على البنية الأساسية نجاحاً لافتاً للنظر في الصين ذاتها، وكانت تشكل عنصراً مهماً في الاستراتيجيات التي تبنتها بلدان أخرى في شرق آسيا، من اليابان إلى كوريا الجنوبية إلى سنغافورة.
ويأتي السؤال الأكبر في ما يتعلق بمستقبل السياسة العالمية واضحاً وصريحا: فأي نموذج قد تكون له الغَلَبة؟ إذا لبت مبادرة حزام واحد وطريق واحد توقعات المخططين الصينيين، فسوف تتحول أوراسيا بأسرها، من إندونيسيا إلى بولندا، في الجيل القادم. وسوف يزدهر نموذج الصين خارج الصين، فترتفع الدخول وبالتالي الطلب على المنتجات الصينية التي ستحل محل الأسواق الراكدة في أجزاء أخرى من العالم. وسوف تنتقل الصناعات الملوثة أيضاً إلى أجزاء أخرى من العالم. وبدلاً من كونها منطقة واقعة على المحيط الخارجي للاقتصاد العالمي، فسوف تصبح آسيا الوسطى في قلبه، ويكتسب نموذج الحكم الاستبدادي في الصين مكانة بارزة، وهو ما يعني ضمناً تأثيراً سلبياً كبيراً على الديمقراطية في مختلف أنحاء العالم.
ولكن هناك من الأسباب المهمة ما يحملنا على التساؤل حول إمكانية نجاح مبادرة حزام واحد وطريق واحد. لقد حقق النمو القائم على البنية الأساسية نجاحاً ملموساً في الصين حتى الآن لأن الحكومة الصينية كانت قادرة على السيطرة على البيئة السياسية. ولن تكون هذه هي الحال في الخارج، حيث سيتداخل عدم الاستقرار والصراع والفساد مع الخطط الصينية.
وبالفعل، وجدت الصين نفسها في مواجهة أصحاب المصلحة الغاضبين، والمشرعين القوميين، والأصدقاء المتقلبين في أماكن مثل الإكوادور وفنزويلا، حيث تنفذ الصين بالفعل استثمارات ضخمة. وقد تعاملت الصين مع المسلمين الساخطين في إقليم شينجيانج من خلال الحرمان والقمع؛ ولن تُفلِح تكتيكات مماثلة في باكستان أو كازاخستان.
بيد أن هذا لا يعني أن الولايات المتحدة وغيرها من الحكومات الغربية ينبغي لها أن ترتكن إلى الشعور بالرضا عن الذات وتنتظر فشل الصين. صحيح أن استراتيجية المشاريع الضخمة في تنمية البنية الأساسية ربما بلغت منتهاها داخل الصين، وقد لا تنجح في بلدان أجنبية، ولكنها لا تزال تشكل أهمية بالغة للنمو العالمي.
كانت الولايات المتحدة في خمسينيات وستينيات القرن العشرين مواظبة على بناء السدود الضخمة وشبكات الطرق، إلى أن أصبحت هذه المشاريع خارج النمط السائد. واليوم، لم يعد لدى الولايات المتحدة سوى القليل نسبياً الذي يمكنها تقديمه للبلدان النامية في هذا الصدد. صحيح أن مبادرة "تمكين أفريقيا" التي طرحها الرئيس باراك أوباما فكرة جيدة، ولكنها كانت بطيئة في الإقلاع عن الأرض؛ كما انتهت الجهود لبناء ميناء فورت ليبرتي في هايتي إلى الفشل.
ينبغي للولايات المتحدة أن تصبح عضواً مؤسِّساً في البنك الآسيوي للاستثمار في البنية الأساسية؛ فلا يزال بوسعها أن تنضم وتدفع الصين نحو قدر أعظم من الالتزام بالمعايير الدولية للبيئة والسلامة والعمل. وفي الوقت نفسه، يتعين على الولايات المتحدة والدول الغربية أن تسأل نفسها لماذا أصبح تشييد البنية الأساسية صعباً إلى هذا الحد، ليس فقط في البلدان النامية بل وفي الداخل أيضا. وما لم نفعل هذا فإننا نجازف بالتخلي عن مستقبل أوراسيا وغيرها من الأجزاء المهمة في العالم لصالح الصين ونموذجها التنموي.
كبير زملاء جامعة ستانفورد، ومدير مركز الديمقراطية والتنمية وسيادة القانون. وأحدث مؤلفاته كتاب "النظام السياسي والانحلال السياسي".