﴿الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82)﴾. (سورة الشعراء)..هكذا نسب سيدنا إبراهيم عليه السلام المرض لنفسه، وقرر كذلك ألا يعبد إلا الخالق ويهدي ويطعم ويسقي ويشفي ويحيي ويميت ويغفر للمسلمين يوم البعث العظيم. فنحن نمرض وعلى المولى عز وجل الشفاء، والشفاء آت مهما تعددت الأسباب، فهناك من أقام المشافي، وهناك من يعالج، وهناك مع يهتم بصحة مرضاه، إلى أن يتمم الله شفاه.
لعلها بداية مؤلمة نوعا ما، ولكن من نعم الله عز وجل أن من علينا بالشفاء، فالمرض قضاء والشفاء مكتوب، وعذراً عندما أتحدث عن وعكة صحية أجبرتني على مغادرة القاهرة حيث مقر عملي مسرعاً ليتم علاجي في مركز الشيخ محمد بن خليفة للقلب بالبحرين الذي أتوجه لجميع مسؤوليه بالشكر والعرفان على اهتمامهم بي وسرعة إجراء العملية الجراحية.. وشكر وتقدير خاص جدا للدكتور البارع فؤاد عبد القادر الذي أولاني جل عنايته وجميع القائمين على جناح العناية المركزة بقسم القلب بالمركز.فقد عرفت بمزيد من العرفان خلال تلك الأيام الصعبة معنى الحب، حب الأسرة والأصدقاء والأقربين والمحبين وقت الشدائد..وجعلتني تلك الأيام المؤلمة افتخر واعتز بهذا الكم الكبير من حب كل المحيطين بي والذين هم في موقع لا ينازعه أي حب، فهم كنور العين والبصر الذي أبصر به الدنيا، ولن أعدد أو أحصي، فقد أعجز عن أن أعدهم، فلكل منهم معزة خاصة. وأحمد الله على نعمة المحبة والتوادد التي أشعر بها في كل مرة احتاج إليهم، فأجدهم معي يشدون آزري.. فهكذا هو الحب، وكما يقول المثل العامي: «من أحبه الله حبب فيه خلقه»، فحب الله لعبده نعمة كبيرة ومن خلال هذا الحب يشعر الإنسان بحب الآخرين له.
وأحمد الله رب العالمين على ما منّ به علي من نعمة الصحة والعافية بعد العملية الجراحية في أحد شرايين القلب، وكما أسلفت، فمن أحبه الله حبب فيه خلقه، وأنا أعتز وافتخر بهذا الحب الكبير الذي أحاطني به أولا أفراد أسرتي كافة من غير عدد منذ وصولي البحرين ووجودهم معي طوال الوقت مما خفف عني هذه الأزمة العارضة والذين لا أجد من الكلمات ما يوفيهم حقهم فلهم كل الحب والتقدير فهم العزوة والسند.. أصدقائي المقربين الذين قضينا معاً عمراً مديداً من الود، وكبار المسؤولين في المملكة وخارجها وجميع المحبين لي الذين اطمئنوا على صحتي رغم مشاغلهم الجمة، فهذه هي روح المحبة والتي تمنحنا طاقة إيجابية وروحية على تحدي المرض، فالمرض إذا كان قضاء فالشفاء مكتوب بإذن الله ومن دواعي الشفاء حب المقربين والأصدقاء.
فمن أحلى لحظات الحياة التي يشعر فيها الإنسان بأن أصدقاءه وأحبابه يحيطون به يسألون عنه ويعودونه في مرضه، لا يسعني سوى تقديم خالص شكري وتقديري لمن هم جميعا في القلب يسكنون، حفظهم الله وأبعد عنهم كل مكروه وكرب ومرض بإذن الله..وما أجمل الحب، إنه عاطفة جميلة مهما كان نوعه، عايشته واقعاً ملموساً في حب الجميع لي ولهجتهم وخوفهم، وأسرد هنا كيف تأملت الخوف في أعين أولادي عندما جلسوا معي، ودفعني خوفهم على أن أقول لهم: «لم أترك لكم ميراثاً ولكني تركت لكم شيئاً أعظم من أموال الدنيا وكنوزها، تركت لكم شيء اسمه (الحب)..نعم الحب بجميع معانيه، فقد لاحظتموه في عيون الزوار واتصالات كل من أحاطني بخوفه ورعايته لي خلال العارض الصحي الذي ألم بي، حب لم يفارقني من قريب ولا أخ ولا صديق وحبيب».. فهذا هو الحب الذي ينشده الجميع فعلا، فالحب نعمة من الله جل جلاله وكذلك شفاه.
وإذا كنت اعتدت في السابق أن اختم بأمر شخصي، ولكن أعكس الوضع اليوم، ليكون ختامي بما بدأت به على مدى مقالين سابقين وربما أكون أطلت على قرائي الأعزاء ومن بينهم من طلب مني استكمال سلسلة ذكريات سيدة الغناء أم كلثوم، بعد رحلة أولى مع الأطلال ثم أمل حياتي وإن كانت قصيدة «من أجل عينيك» التي كتبت عنها في آخر مقالي السابق كان لها معجبون كثر كانوا يفضلون تخصيص مقال كامل عنها، وأنا أوعدهم بذلك في مرات قادمة بإذن الله..وأضيف هنا رسالة رقيقة من جملة ما وصلتني من رسائل رداً على مقال «أمل حياتي وسحر العيون..ما بين شفيق والفيصل»، وتقول الرسالة: «مقال مرهف كجناح الفراشة ويعكس إحساساً رفيعاً وذوقاً شديد العذوبة، أشكرك على هذا المقال، فهو من أمتع ما قرأت بدون مبالغة.. ومن فرط الذوبان في تحليلك الرائع لـ(أمل حياتي) تمنيت أن تستمر في تحليلك لهذه الأغنية الرائعة ومتى أنشدتها كوكب الشرق وكيف تلقاها جمهورها، وأن تؤجل الحديث عن ما سواها من أغاني.. فأنت كريم وأعرف أنك لن تبخل على قرائك من أن تخصص مقالاً كاملاً حول (من أجل عينيك) وشاعرها العظيم الأمير عبدالله الفيصل». ولن أبخس حق أصدقائي الغاليين الذين طالبوني بألا أنسى أكمل قصة «أمل حياتي» للقراء، وذلك بعد رسالتهم الرقيقة للاطمئنان على صحتي ومكالماتهم التي بثت في نفسي وروحي الأمل والطمأنينة.
أعدهم بمواصلة الحديث عن ذكريات كوكب الشرق أم كلثوم، تباعا وسأكتب اليوم عن قصيدة «ذكريات» لشاعر الشباب والحب أحمد رامي الذي كان متيما بسيدة الغناء العربي وكانت ملهمته الوحيدة فكتب فيها ولها أروع الكلمات وأعذبها وأكثرها شجناً، وأضيف هنا وصف لقصيدة «ذكريات»مثل كثيرين غيري، حيث أحب أن أضيف للعنوان «قصة حبي» لتكون «ذكريات قصة حبي»، فهي تحكي عن ذكريات قصة حب فعلا وليس سواه. وهذا ما قاله رامي ولم يكن مبالغاً في وصفه لذكرياته.. فذكريات قصة الحب تكشف مشاعر أي إنسان عاشق، وتكشف أيضا مدى ألمه وآلامه مهما مر عليها من وقت، فالوقت مهما مضي لن ينسينا ذكرياتنا، فالزمن قد ينسج غلافاً على ذكرى مرينا بها في حياتنا، ولكن مهما تعددت الأغلفة فهي لن تنسينا ذكرياتنا، فمجرد أن نجلس مع أنفسنا نتذكر كل ما فات من مشاعر حب وحزن وآهات وعذاب، ونتذكر كذلك كل مشاعر الفرح، فالذكرى مع هذا وذاك، والمهم أننا لا ننساها، وهكذا جاءت ذكريات قصة حبي لرامي مع ملهمته أم كلثوم: «ذكريات عبرت أفق خيالي بارقا يلمع في جنح الليالي..نبهت قلبي من غفوته وجلت لي ستر أيامي الخوالي..كيف أنساها وقلبي لم يزل يسكن جنبي.. إنها قصة حبي».
والحياة تستمر، تتواصل معها الذكريات، فهي لا تترك فكرنا وظنوننا، فصداها لا يترك سمعي بل أقرب من هذا فهي حياتي ما بين فرح وحنين لهذا الفرح، إلى النقيض أي بكاء وألم، فالذكرى والذكريات لا تنسى، لدرجة أن الأذن تفكرني بدمعي عندما كنت أبكي مع كل لحظة حزن: «ذكريات داعبت فكري وظني.. لست أدري أيها أقرب مني..هي في سمعي على طول المدى نغم ينساب في لحن أغني..بين شدو وحنين وبكاء وأنين..كيف أنساها وسمعي لم يزل يذكر دمعي..وأنا أبكي مع اللحن الحزين».
وتستمر الذكريات بعد انقضاء الليل الذي تكثر فيه أحلام قصص الحب وتنهض فيه الذكريات بكل ما مضى من حب وألم. ومع قرب انتهاء الليل الذي تتطوقه مشاعر أقرب لرقة الياسمين، يأتي الفجر متبسما في يوم لا ينسى حينما ندرك حبنا ونسترجعه من عالم الغيب، لتتلاقى الأرواح ويتعلق القلب والروح بطلعة الحبيب البهية، لتبدأ رحلة الحب والهوى، رحلة مثل الزهر أو رحلة مزهرة بسبب الود والوفاء، ود روينا به هذا الحب، وعهد وفاء بيننا حافظنا به على هوانا الذي فجر الشوق بين قلبين متحابين في هذا الفجر الباسم لينتهي إلى لقاء: «كان فجراً باسماً في مقلتينا يوم أشرقت من الغيب على..أنست روحي إلى طلعته واجتلت زهر الهوى غضا نديا..فسقيناه ودادا ورعيناه وفاء.. ثم همنا فيه شوقا وقطفناه لقاء».أنها ذكريات قصة حبي الذي لا يزل يشغل بالي وحواسي، فصورة الحبيب مثل البدر عندما يسري في الكون، وهو نفس الحبيب الذي يفيض رقة وحنانا كفيض الماء العذب عندما يجري في الوديان ينشر الحب ويروي القلوب الظمآنة، فلا يظل القلب الخالي خاليا إذ يتدثر بالعاطفة الجياشة: «كيف لا يشغل فكري طلعة كالبدر يسري..رقه كالماء يجري فتنة بالحب تغري..تترك الخالي شجيا».
وكما مرت ذكريات رامي على خياله في ساعات الليل الطويلة مثل البرق سريعة لتوقظ قلبه من سباته، فيكتشف أن الذكريات قد سكنت الفؤاد فلا تنسي أبدا ويستمر رنينها في أذنه، ليس هذا فقط، فالذكريات أصبحت حلما لا يفارق صاحبه، وهي الصورة الأبدية التي لا تغيب عن ناظره، لتكون ضربا من الخيال والوهم تارة وحقيقة تارة أخرى حتى لو ظلت مثل الطيف، فالذكريات تحيا وتعيش طالما ظل القلب ينبض نبض السنين، ومهما كانت ماضيا فحياتنا تحيا بها، ولن ننساها، وكيف ننسى ذكرياتنا وقلبنا يسكن صدورنا، ولذا فنحن نعيش اليوم قصة حبنا حتى لو كان هذا الحب في زمن ولى ومضى الى حال سبيله، فطالما الفؤاد ينبض سيعيد آهاتنا إلى سمعنا، لتظل صورة حبنا ورقته أمام ناظرينا: «كيف أنسى ذكرياتي وقلبي لم يزل يسكن جنبي..إنها قصة حبي».
وإلى ذكرى أخرى بإذن الله...
amurshed2030@gmail.com