باميلا كسرواني
«ورِثنا هذه المصلحة من الفينيقيين الذين كانوا يتقنون حرفة نفخ الزجاج في الصرفند «جنوب لبنان» وتوارَثتها الأجيال.. عائلتي، أي عائلة «خليفة» تسعى للحفاظ على هذا التراث المتناقل من أجدادنا. وهذا ما يدفعنا للمثابرة وما يُسعدنا لأن منتجاتنا فيها روح وحياة وليست مشغولة ميكانيكياً».
بشغف تختصر نسرين خليفة حرفة نفخ الزجاج في لبنان، هي التي تنتمي إلى آخر عائلة لبنانية تجيد هذه الحرفة، وهي التي تهتمّ بالعلاقات العامة وتنسيق الطلبيات وحتى تزيين قطع الزجاج المتنوعة.
الآباء، والأعمام، وأولادهم، جميعهم يعملون، يداً بيد، ليبقى المصنع نابضاً بالحياة على الرغم من كل الصعوبات. وتخبرنا نسرين، خلال مقابلتنا الهاتفية، «كنّا نعاني من قلة التسويق لأن القطع اليدوية غالباً ما تكون أكثر كلفة من تلك المشغولة على الماكينات إضافة إلى أن الكثير من اللبنانيين يفضّلون المنتجات الأجنبية». وتضيف: «الأمور صعبة جداً لأننا نعمل أحياناً بضعة أيام ثم نقفل المصنع أشهراً عدة. لا نُشعل الفرن إلا إذا توفّرت طلبيات كبيرة أي بما يعادل 5000 دولار أو أكثر لأن العملية مكلفة وطويلة جداً، ونحتاج إلى 2000 دولار لإشعال الفرن و3 أيام لتحمية القرميد والزجاج. وعندما نبدأ بالعمل، لا نتوقف ليلاً نهاراً».
إلا أن الوضع تغيّر قبل بضعة سنوات وتحديداً العام 2013 عندما تعاونت عائلة خليفة مع المهندس البيئي والصناعي اللبناني ورئيس إدارة شركة إدارة النفايات «سيدر إنفايرومنتيل» والذي أطلق مبادرة «إعادة تدوير الزجاجات الخضراء في لبنان» GGRIL التي تهدف إلى إعادة تدوير الزجاج الأخضر إلى منتجات مبتكرة مثل الأكواب والمصابيح والمزهريات بأسعار مقبولة.
إنها مبادرة تتناسب مع ما تقوم به عائلة خليفة إذ تقول نسرين: «نحن نقوم بإعادة التدوير منذ أكثر من 100 عام لكن الناس لا يعرفون ذلك، ويظنون أنه زجاج منفوخ فقط. لكن الأمر اختلف اليوم لأنهم باتوا يتمتعون بوعيٍ أكبر وأصبحوا أكثر اطلاعاً وإلى جانب دور هذه المبادرة في الحفاظ على البيئة فإنها تساهم أيضاً في إنقاذ هذه الحرفة وحماية العائلة التي تتقنها من الإفلاس. وتخبرنا نسرين: «تحسّن العمل ومبيعاتنا كثيراً منذ أن تعاوننا مع أبي شاكر بفضل التسويق الجيد. وبات الناس والشركات مهتمين بما نقوم به ما يساعدنا على إنقاذ الحرفة من جهة، والتخلص من النفايات الزجاجية بطريقة مبتكرة من جهة أخرى».
وبالعودة إلى العام 2013 وبدايات مبادرة «إعادة تدوير الزجاجات الخضراء في لبنان يقول أبو شاكر: «لم يكن هناك إلهام لا بل حاجة ملحّة لمبادرة من هذا النوع، فقبل العام 2006، كنا نرسل كل الزجاج الملوّن إلى معمل في تعنايل. لكن خلال حرب ذلك العام، قصفت إسرائيل هذا المعمل الذي كانت تملكه شركة هنديّة قررت عدم إعماره من جديد، وعدم رغبتها بالاستثمار في لبنان». وتجدر الإشارة إلى أن هذا المصنع كان يخدم مصانع محلية عديدة وكان يستخدم كل الزجاج الأخضر والعنبر في مجال إعادة تدوير الزجاج اللبناني. منذ ذلك التاريخ، تنتهي حوالي 71 مليون من الزجاجات الخضراء والعنبر الأخضر سنوياً في مكبات القمامة أو مطامر غير منضبطة.
ويتابع أبو شاكر قائلاً: «في إحدى المرّات، قصدني شبّان ينفخون الزّجاج في الصّرفند، وأخبروني أنّهم على وشك الإفلاس وهم آخر من ينفخ الزجاج في لبنان، وطلبوا التعاون معنا. قلت في نفسي إنّهم يعانون مشكلة إفلاس وأنا أعاني مشكلة الزجاج الأخضر. وبعد تفحّص العمل الذي يقومون به ودراسة السوق الذي دخلوه، والمشاكل التي يواجهونها، وسبب إفلاسهم، وجدنا أن السّبب هو تكرار التصاميم، وبيعها في أماكن تواجد السيّاح والحرف فقط فيما كان السياح شبه غائبين ومحلات الحرفيين السياحية غالباً ما تشتري القطع بأسعار زهيدة لتعود وتبيعها بثلاث أضعاف السّعر».
وقرر أبو شاكر أن يعيد تصميم المنتجات الحرفية وأن يوسّع سوقها متعاوناً مع ستة حرفيين من الصرفند (من عائلة خليفة)؛ آخر نافخي الزجاج في لبنان بعدما أفلس حرفيّون في طرابلس (شمال لبنان) فتوقّفوا عن العمل.
تصاميم جديدة مصنوعة من مواد مُعاد تدويرها بالكامل، من الزجاج المنفوخ إلى الكرتون والتغليف، باتت متوفرة في العديد من مراكز البيع، سواء المعارض والمطاعم والمتاجر وأثبتت نجاح المبادرة. يقول أبو شاكر: «أنقذنا نافخي الزجاج من الإفلاس والآن وصلنا إلى مرحلة أصبحت تكلفة كل طلب لهم لا تقل عن ستة عشر ألف دولار أمريكي». ويضيف: «قمنا بالتنسيق مع تجّار التجزئة بحيث أنّ 80 بالمئة من الإيرادات تعود إلى نافخي الزّجاج و20 بالمئة من الإيرادات تبقى للتاجر الذي يبيع البضائع». وبحسب أرقام زودنا بها أبو شاكر، حالت المبادرة، حتى مايو 2017، دون وصول 750 ألف زجاجة إلى المكبات لا بل إلى مصنع نافخي الزجاج في الصرفند؛ هؤلاء عملوا طوال عام واحد أكثر مما أنجزوه من الخمسة الأعوام السابقة. أما عن مكسب أبي شاكر، فيقول: «نحن لا نكسب من العملية، مكسبنا يتمثل في أنهم يأخذون منّا الزّجاج الذي نفرِزه في معاملنا، لنحافظ على استراتيجية «صفر نفايات».
لا شك في أن هذه المبادرة أثبتت عبر السنوات نجاحها، إذ يؤكد أبو شاكر أن «ما يجعل المبادرة تنجح هو إقبال النّاس بسبب التصاميم الجميلة وسعرها الرّخيص» ما أدى إلى أن يكسب الحرفيون ما لا يقل عن ربع مليون دولار من 2013 إلى الآن. إلا أن مشكلة إعادة التدوير أو إحياء حرفة نفخ الزجاج لم تُحل بالكامل.
ويوضح أبو شاكر السبب قائلاً: «لأنّها صعبة ويجب تعلّمها، نريد زيادة عدد الحرفيين ونرديهم أن يطمئنوا بأن لديهم مستقبلاً واعداً. هذا ما نعمل عليه حالياً. كما يجب أن يكون هناك معلّمين، وأعتقد أنّ آل خليفة يجب أن يأخذوا على عاتقهم تعليم الناس نفخ الزجاج، هذا ما نشجعهم عليه الآن».
ومن جهة أخرى، تبقى مشكلة إعادة تدوير الزجاجات الخضراء أكبر من مبادرة وحيدة. وهنا يقول أبو شاكر «نحن نستهلك بحدود الثمانين مليون قنّينة خضراء على مستوى الوطن. لكن أنا لا أستطيع حل مشكلتها جميعها».
يسعى أبو شاكر إلى معالجة بين 5 إلى 10 % من الزجاج الأخضر في حين أن الباقي ينتهي في المكبات. أما الحل المستدام الطويل الأمد، فيكمن في إعادة إنشاء مصنع لإعادة التدوير؛ أمرٌ، على حد قول أبي شاكر، ما زال ينتظر التمويل والاستثمارات إذ إن تكلفة المصنع تصل إلى 40 مليون دولار تقريباً. قد تبدو التكلفة كبيرة إلا أن أبي شاكر يعلق قائلاً: «خلال ثلاث سنوات يمكن أن يُستعاد سعره، وخلال الـ 17 سنة الباقية يكون الربح صافياً».
لا شك في أن المصنع هو الحل لمشكلة الزجاج الأخضر في لبنان إضافة إلى دور الدولة بخلق كل الحوافز وكل الأمور لتسهيل إنشائه وإطلاق المزيد من المبادرات وتطوير عمليات فرز وإعادة تدوير النفايات على الصعيد الوطني لا الفردي فحسب.
بانتظار أن يتحقق ذلك، يسعى أبو شاكر إلى توسيع «مبادرة إعادة تدوير الزجاجات الخضراء في لبنان» من خلال إيجاد أسواق خارجية، في فرنسا، نيويورك، دبي أو لندن. ويبقى على المواطن أن يدعم هكذا مبادرات وأن يكون عضواً فاعلاً في فرز النفايات، فإذا نجحت هذه المبادرة في إنقاذ عمل نافخي الزجاج، حان الوقت لمضافرة الجهود لإنقاذ البيئة في لبنان.