الهلاك قد يأتي من الاستهلاك

مقالات رأي و تحليلات الاثنين ١٥/يناير/٢٠١٨ ٠٤:٣٢ ص
الهلاك قد يأتي من الاستهلاك

سمعان كرم

صحيح أن الفرق الحسابي بين شخص يملك ريالاً فائضاً وآخر مديناً بريال واحد هو ريالان، لكن الفرق المعنوي -وكدت أقول الفعلي- هو أكثر بكثير. فالأول وضعه مستقر ومستديم والثاني قد يتعثر عند أول أزمه، الأول دائن والثاني مدين، لا بل أزيد وأقول إن الأول حكيم وقوي، والثاني قد تعصف به الأحداث. فهل حان الوقت لنصحح مسارنا وسلوكنا الاستهلاكي، وأن «نمد بساطنا على طول أرجلنا».

منذ بدء النهضة المباركة والخير يتدفق علينا بدرجات متفاوتة ومتغيرة، وهذا أمر طبيعي، إن كان من وظيفة نقوم بها، أو من تجارة نتعاطاها، أو من بيع أرض نملكها. كيف استعملنا تلك المداخيل؟ وفوق ذلك فقد استلفنا كأفراد حوالي ثمانية بلايين ريال عماني من البنوك، وهو مجموع القروض الشخصية اليوم إي بمعدل 3200 ريال عماني لكل فردٍ أو حوالي 16.000 كمتوسط دين العائلة الواحدة. إذن، حصلنا على الوافر من المداخيل والقروض. إن كنا قد استعملنا تلك الأموال للبدء بعملٍ حرٍ، أو للقيام بمشروعٍ إنتاجي، أو حتى بناء منزل فلا بأس بذلك لأن الأموال لم تتبخر أو تهاجر بل بقيت موجودة في الوطن تدور في الاقتصاد المحلي. وإن كنا قد صرفناها كلها على الكماليات المستوردة، وعلى السفر واللهو والمركبات، فإنها قد ذهبت إلى الأبد ولن تعود، تاركةً وراءها وجوهاً حزينة، كئيبة، مثقلة بالهموم. هموم التسديد تحت طائلة التهديد. أية فرحة هي تلك التي نشعر بها عندما نحصل على قرضٍ نستعمله للاستهلاك على الكماليات الفانية، أية نشوة آنية هي التي تليها أعوامٌ من الندم. لو كنا بلداً منتجاً لتلك السلع التي تستهوينا وتجذبنا إليها، فلا بأس أن نشتريها إن كانت لنا القدرة المالية. في الحالة هذه نشجَع المنتج الوطني وتبقى أموالنا في بلدنا نتداول بها، فينخفض الطلب على العملات الأجنبية في سوقنا. إذن، الفرق بين سلعة مستوردة وشبيهتها المنتجة داخلياً ليس فقط السعر بل تأثيره على انتعاش الصناعة المحلية والاقتصاد الوطني. في كل الأيام، وخصوصاً في الأزمات، علينا أن نخفف من الاستهلاك بصورة عامة ومن المستورد بشكل خاص انطلاقاً من حسٍ وطني يلهمنا جميعاً. في هذا الصدد، وخلال زياراتنا المتعددة لسول في كوريا الجنوبية، لاحظنا أن هذا الحس الجامح عندهم وحبهم للابتكار وإيجاد البديل جعلهم يستعملون المنتجات الوطنية إلى أبعد الحدود. كل ما تراه حولك هو من صنع كوري. هذا من ناحية الاستهلاك.

أما من ناحية الادخار، والأمران مترابطان، فالحاجة إليه تزداد إلحاحاً وأهمية ونحن نعيش، كما دول المنطقة كلها، أزمة خانقة لم نتوقعها أن تطول ولم نستعد أو نتهيأ لها. إن جميع الودائع لدى المصارف المحلية لا تزيد عن عشرين بليون ريال عماني، أغلبها ودائع حكومية وصناديق مختلفة، وبالتالي فإن حصة القطاع الخاص والأفراد من الودائع لا يزيد عن سبعة بلايين ريال عماني. وهذا مبلغ زهيد فيما لو قارناه بالمداخيل والقروض التي حصلنا عليها.

العمانيون الذين رافقوا النهضة المباركة منذ انطلاقها عرفوا حكمة الادخار ومارسوها خلال عقود، نراهم اليوم قد ضمنوا حياة كريمة لشيخوختهم وفتحوا أبواب الاستدامة الطويلة لأولادهم. مع الآسف، نرى اليوم أن الاستهلاك قد قضى على فكرة الادخار وقضم حجمه وفوائده. لنفرض أن كل عائلة عمانية تدخر خمسين ريالاً عمانياً فقط في الشهر الواحد. وحيث أن هناك 500.000 عائلة عمانية يمكننا أن ندخر إذن 25 مليون ريال عماني شهرياً أو 300 مليون ريال في السنة، أي يمكن أن نقارب البليون ريال قبل العام 2020. نتحول تدريجياً من وضع الحرج إلى وضع الراحة والطمأنينة. ذلك البليون يصار إلى تدويره في الاقتصاد وبالتالي زيادة النمو والناتج المحلي.
مثلما نطالب كلنا القطاع العام بترشيد وتخفيف المصاريف علينا نحن أيضاً أن ننسجم مع أنفسنا ونعتمد النهج ذاته بالنسبة لنا. التغير في هذا السلوك يأتي لمصلحتنا الشخصية ومصلحة عائلاتنا ومصلحة وطننا في هذه المرحلة من مسيرتنا ونهضتنا. التحول المطلوب يتطلب قليلاً من الشجاعة نجابه بها أنفسنا وعائلاتنا وبخاصة أمهات أولادنا. نعلمهم بضرورة تغير السلوك وطرح السؤال الجوهري قبل شراء سلعة هل نحن فعلاً بحاجة إليها؟! دخل الفيلسوف الأيرلندي جورج برنارد شو إلى مركز للتسوق ونظر إلى المعروضات فيه، وقال: «يا إلهي كم من الموجودات التي لا نحتاجها». من ناحية أخرى إن اشترينا مركبة بـ50 ألف ريال عماني أو بمبلغ 10 آلاف تبقى كرامتنا علينا. والسخيف هو من يعيبنا ويعيُرنا. وإذا احتفلنا بعقد زواج دون بذخ وتبذير تبقى كرامتنا مصانة، أما إذا فشلنا في تسديد دين علينا، عندها تتزعزع الكرامة.
إن البشائر الإيجابية التي ظهرت مؤخراً من أسعار نفط وموازنة محافظة أو حتى فوزنا في كأس الخليج تعطينا فرصة جديدة لتصحيح مسار استهلاكنا وادخارنا، والخطر من تلك البشائر أن تضللنا وتخفي عن أعيننا عمق الأزمة أو الطريق السليم لإدارة أموالنا.