الذكاء الجمعي وتشكيل المجتمعات

مقالات رأي و تحليلات الاثنين ٠١/يناير/٢٠١٨ ٠٤:٥٥ ص
الذكاء الجمعي وتشكيل المجتمعات

أدريان بريدجواتر

التقارب والتعاون وتحليل البيانات يوفر للحكومات أدوات فعّالة لتحسين الحياة اليومية للمواطنين..ترى كيف يمكن للشرق الأوسط أن يستفيد من نُهج «الذكاء الجمعي» الجديدة.تشهد الطريقة التي يسير بها عالمنا الكثير من التغيرات. فقد أصبحت حكومات الشرق الأوسط قادرة على التواصل مع مجتمعاتها بشكل مباشر أكثر من ذي قبل، ولو بدرجات متفاوتة، مما يمكّنها من الاطلاع على مطالب الناس واكتشاف السبل التي يريدون عيش حياتهم بها واستبيان المزاج العام للشعوب.

بفضل منصات التواصل الاجتماعي والمنتديات الإلكترونية وبوابات المعلومات الحكومية، ومن خلال أشكال التواصل الإلكتروني المباشرة أكثر من غيرها مثل البريد الإلكتروني، باتت الفرصة سانحة اليوم أمام الحكومات العربية لفهم أنماط المشاعر الاجتماعية والاستناد إلى هذه المعرفة عند اتخاذ قراراتها المتعلقة بصنع السياسات.

في الوقت الذي ستحافظ كافة إدارات القطاع العام في الشرق الأوسط على سلطة تنفيذ إجراءاتها التشريعية، أصبح بإمكانها اليوم أن تعمل أيضًا انطلاقًا من آليات ذات طبيعة شمولية تساعدها على فهم مطامح وأفكار الشعوب والاستجابة لها. وتتيح أيضًا هذه الآليات القدرة على تقسيم الشرائح الاجتماعية إلى فئات محددة، استنادًا إلى الديموغرافيا البشرية والموقع والعمر والسمات السلوكية المعينة وغيرها من التصنيفات الفرعية الأخرى.
وهذا الأمر ليس بجديد، فنحن نستخدم أشكالاً متنوعة من الذكاء الجمعي منذ عصور. فمن ساحات الأسواق ودور البلدية إلى الأسواق التقليدية المركزية في العالم العربي وحتى مجموعات المصالح الخاصة ذات الطابع الرسمي في القطاع العام، يتضح أن الحكومات تسعى منذ قرون للاستماع لشعوبها والتواصل معها. إلا أن هذه المنتديات المفتوحة تتسم بالهشاشة، فهي عرضة للفساد وسوء التواصل، وبالتالي فهذه الأساليب ينتهي أمرها سريعاً.
واليوم في القرن الواحد والعشرين، تمنحنا شبكة الإنترنت وتكنولوجيات تحليلات البيانات القدرة على التواصل بشكل مباشر أكثر من ذي قبل وعلى استيعاب المعلومات المتوفرة. ولعلك تتساءل الآن كيف يمكن أن تستخدم الحكومة الذكاء الجمعي الرقمي بما ينفعنا؟ كيف يمكن أن تستخدم الجهات العامة في الشرق الأوسط هذه الأدوات الجديدة بما يحسّن من مستوى حياتنا؟
للإجابة على هذا التساؤل، تنبغي الإشارة إلى القنوات الخمس لتبادل المعلومات.

قناة الذكاء الجمعي 1: تجمع الحكومة البيانات من السكان من خلال تحليل المشاعر التي يعبّرون عنها بشكل طبيعي عبر منصات التواصل الاجتماعي.

قناة الذكاء الجمعي 2: تدعو الحكومة المواطنين للتعبير عن آرائهم بشكل فاعل من خلال المشاركة في استطلاعات عبر شبكة الإنترنت وعبر غيرها من وسائل تقديم التغذية الراجعة.

قناة الذكاء الجمعي 3: تستخدم الحكومة بيانات قطاع الأعمال حيث توافق الشركات على تقديم معلومات مفيدة عن عملياتها.

قناة الذكاء الجمعي 4: تستحصل الحكومة على البيانات الآلية باستخدام الأجهزة والمستشعرات بتقنية «إنترنت الأشياء» لرصد كافة الأمور، من جودة الهواء إلى كمية الطاقة التي تستهلكها أعمدة الإضاءة في الشوارع.

قناة الذكاء الجمعي 5: تربط الحكومة كافة تدفقات المعلومات مع المؤشرات الاقتصادية الأوسع ومصادر البيانات المفتوحة وربما أيضاً مع المعلومات البيئية، مما يسهم في تحديد المسارات المستقبلية.

في حال قررت الحكومات العربية تبني قنوات المعلومات هذه، ستتمكن حينها من فهم مزاج شعوبها بشكل أفضل من أي وقت مضى. كما سيمكن لهذه الحكومات - وعلى مستويات أكثر تطوراً - استخدام خوارزميات ونماذج التعلم الآلي من أجل اعتماد الذكاء الاصطناعي في اتخاذ القرارات التي تصوغ السياسات العامة. ولكن هذا لا يعني أن هذه القنوات ستحلّ مكان الموظفين الحكوميين، بل إنهم ستوفر لهم المزيد من الأدوات لأداء عملهم بشكل أفضل.
على سبيل المثال، إذا تعذّر على النظام الصحي في لبنان اكتشاف الارتفاع في مستوى الإصابات بعدوى تصيب الجهاز التنفسي، يستطيع الذكاء الجمعي أن يدق جرس الإنذار باكرًا. وسيمكّن ذلك المستشفيات من الاستعداد لتلبية الحاجات المستقبلية مثل تخصيص أماكن لعزل الفيروس أو تخزين الأدوية المعالجة. وكانت منظمة الصحة العالمية قد أفادت أن مستشفى رفيق الحريري الجامعي في بيروت مجهّز جيدًا لمواجهة تفشي إنفلونزا الطيور والإنفلونزا الوبائية، إلا أن أدوات الذكاء الجمعي استطاعت التنبؤ بذلك بدقة أكبر.
أشار بحث نشرته نيستا Nesta حول الموضوع في يناير 2017 إلى نماذج من الذكاء الجمعي في عدّة دول، من الهند إلى آيسلندا. وألقى الباحثان توم سوندرز وجيوف مولغان الضوء على مبادرة «البنغالوري القادم» التي أطلقتها منظمة غير حكومية في مدينة بنغالور في الهند حيث استُخدمت وسائل إلكترونية وغير إلكترونية لإعداد رؤية مجتمعية حيال تطوير أحد الأحياء في المدينة. أمّا مشروع «بلوك هولم» في السويد، فقد استخدم لعبة الكمبيوتر «ماين كرافت» من اجل تمكين الناس من تقديم أفكارهم الخاصة لاستغلال مساحات أراض فضاء في ستوكهولم.
كما أطلقت فنلندا مشروع «الوزارة المفتوحة» بين عاميّ 2011 و2015، وقد أسهم في تحويل الأفكار المجمعة من المواطنين إلى تشريعات. وفي آيسلندا، أسهمت مبادرة «ريكيافيك أفضل» التي أطلقتها المنظمة غير الربحية «مؤسسة المواطنين» بتمكين مجموعات متعددة من التعاون معًا في التوصل لأفكار لتطوير المدينة وخدماتها. كذلك في الإمارات، أشار تقرير ابتكارات الحكومات الخلاقة إلى أن الذكاء الجمعي «سيمكّن الجميع تقريبًا من المشاركة في عمليات صنع القرارات العامة».
ويلفت جيوف مولغان الانتباه في كتابه «العقل الكبير Big Mind» إلى «الحاجة إلى تجمعات جديدة يمكنها توجيه الذكاء الجمعي العالمي لخدمة مهام عالمية بدءًا من مواجهة التغير المناخي إلى تفادي الأوبئة، مرورًا بحلّ مشاكل العمل وتحديات الشيخوخة».

على الرغم من ذلك، ستبقى التغذية الراجعة المُقدمة وجهًا لوجه أكثر أهمية من أي نوع آخر من التقييمات الرقمية ضمن العديد من الميادين في الدول الشرق أوسطية النامية. لذا، لا بدّ للدول العربية الثرية أن تستوعب أن هذا النوع من الذكاء المُؤتمت ليس بديلاً غير مشروط للتفاعل الإنساني. وأضاف جيوف مولغان في كتابه «اتضح أن أسواق العمل ديناميكية على مدار القرنين الفائتين، إذ تتأقلم مع الزوال الكبير لبعض الوظائف والنشوء الكبير لوظائف أخرى. لذا لا سبب واضح يدعو للاعتقاد بأن المجتمع المؤتمت يعني بالضرورة وظائف أقل».

في الوقت الذي نعتاد تدريجيًا على فكرة مساهمة المواطنين في الاستشعار وتوجيه الحكومات، سيبدأ المزيد منّا في القبول بالذكاء الجمعي كجزء طبيعي من حياتنا. وفي المرحلة المقبلة، سنرحب أيضًا بنماذج هجينة تجمع ما بين التغذية الراجعة البشرية والذكاء الآلي والحيواني! أجل، الذكاء الحيواني! فهو قناة الذكاء الجمعي السادسة!
في دولة بيرو بأمريكا الجنوبية، تم تركيب كاميرات من طراز GoPro مزودة بتقنية نظام التموضع العالمي «جي بي أس» على طيور النسور للمساعدة في تحديد أماكن إلقاء النفايات غير المشروع. فالنسور تحب النفايات وتُعتبر من الأمور المفضلة لديها، لذا من المنطقي «الاستفادة» من ذكاء النسور وإدماجها في خلية الذكاء الجمعي التي نصممها. وفي دولة تشاد بأفريقيا الوسطى، تم تركيب أجهزة استشعار للكلاب تستخدم تقنية أنترنت الأشياء من أجل تتبع الأمراض. أمّا المملكة المتحدة فلجأت إلى طيور الحمام من أجل رصد تلوث الهواء.
لقد وضعت كافة الحكومات التقدمية في الشرق الأوسط هذه الابتكارات - أو شكل من أشكالها - على خارطة طريقها. وعلى الرغم من أننا قد لا نبدأ في الاستعانة بالجمال للتحقق من مستويات رطوبة الهواء ودرجات الحرارة بحلول العام المقبل، إلا أننا سنشهد كيف ستتم هندسة هذه التقنيات بدقة حتى تصبح جزءاً من أسلوب حياتنا.
أنت على طريقك لتصبح مواطناً مستشعراً لصالح حكومتك العربية - للفترة التي تريدها - وهذا يعزز من أهميتك لأن العالم يزداد ذكاءً بفضل المعلومات التي تساعد أنت بمشاركتها. أحسنت صنعاً!