أ.د. حسني نصر
رغم ما يواجه الكتاب الورقي من منافسة شديدة من نظيره الاليكتروني، تبقي المعارض الدولية للكتاب إحدى أهم التظاهرات الثقافية في العالم كله، لما تحدثه من رواج ليس فقط للكتب، بل أيضا لثقافة القراءة التي كادت أن تتلاشي في السنوات الأخيرة بفعل ظهور منصات النشر الرقمية وسيطرة شبكة الإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي على عقول أعداد متزايدة من الناس، خاصة من الأجيال الجديدة.
في هذا الإطار يحتفظ معرض مسقط الدولي للكتاب، وهو يدخل هذا العام دورته الحادية والعشرين، باستمراريته ورونقه ومكانته الرفيعة ضمن منظومة معارض الكتاب الإقليمية والعربية والعالمية، وهو ما يؤكد حرص حكومة السلطنة على القيام بواجباتها في محيط الثقافة الوطنية والعربية بوجه عام، وقدرتها على جمع المنتج الثقافي الإنساني تحت مظلة واحدة على أرض مسقط العامرة. ومع تقديرنا للجهود الكبيرة التي تبذلها وزارة الإعلام والمؤسسات الثقافية الأخرى كل عام في تنظيم هذه التظاهرة الثقافية المهمة، التي وصفها وزير الإعلام معالي الدكتور عبد المنعم الحسني بأنها "أكبر تظاهرة ثقافية تشهدها السلطنة"، فإن السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: ماذا عن صناعة النشر أو بالأصح صناعة الكتاب في السلطنة؟ وهل شهدت تحولات في السنوات الأخير تواكب الاهتمام الحكومي المتزايد بالثقافة بوجه عام، وتستفيد من الحراك الثقافي الذي تشهده السلطنة ونجاح معرض مسقط الدولي للكتاب من عام إلى أخر؟
الواقع أن أية إجابة أمينة عن هذا السؤال تستوجب أن نشير في البداية إلي وجود تحولات مبشرة في صناعة الكتاب في السلطنة يستطيع أن يلاحظها الزائر للمعرض، عندما يشاهد بنفسه التزايد الملحوظ في عدد دور النشر العُمانية المشاركة في المعرض من عام إلى أخر. صحيح أن غالبية دور النشر القديمة والجديدة لازالت تقصر معظم عملها على إنتاج وتوزيع الكتب الدينية، ولكن ظهور وانتشار دور نشر جديدة تهتم بإنتاج الكتب الأدبية يمكن أن يوازن الكفة، ويدعم هذه الصناعة المهمة في السلطنة. واذا أضفنا إلي ذلك دخول بعض مؤسسات المجتمع المدني والمؤسسات الحكومية المعنية بالثقافة علي خط إنتاج وتوزيع الكتب مثل الجمعية العمانية للكتاب والأدباء، والنادي الثقافي، والمنتدي الأدبي، يمكن أن نقول إن صناعة الكتاب في عُمان تشهد نقلة كمية ونوعية ملموسة في السنوات الأخيرة، يجب أن تستمر ويتم دعمها بكل صور الدعم الممكنة، خاصة وان كل دول العالم تقريبا تتدخل للحفاظ على بقاء الكتاب سواء من خلال دور النشر الحكومية التي لا تستهدف تحقيق الربح ثقة منها في دوره الحيوي في حياة الشعوب، أو من خلال تيسير إنشاء المطابع ودور النشر الخاصة ودعم استمرارها. وعلى سبيل المثال فإن دار النشر الأكبر في الولايات المتحدة الأمريكية هي "دار الطباعة الحكومية" التي تصدر آلاف من الكتب كل عام.
من هنا فإننا نطالب الجهات المعنية بدعم صناعة الكتاب في السلطنة، خاصة وأن الكتاب لا زال يمثل للكثيرين وسيلة الإعلام الأكثر احتراما، نظرا لطبيعته الخاصة كأداة ثقافية، ووسيلة للإعلام ولنقل المعارف والتعليم والتسلية، وكونه ما زال يلعب دورا مؤثرا ومتميزا في نقل التراث الحضاري والثقافي بين الأجيال ويساهم في التغيير الاجتماعي.
نريد أن تكون لدينا صناعة نشر حديثة تواكب ما تشهده صناعة الكتاب في العالم من تطور كبير، منذ أن اتجهت إلى أن تكون صناعة تجارية ثقيلة تحقق أرباحا كبيرة. وهنا من الضروري أن نذكر أنه رغم النمو في قراء الكتب الإليكترونية في السنوات القليلة الفائتة ، فإن غالبية الناس ما زالوا يقرأون الكتب الورقية بأعداد تفوق كثيرا عدد من يقرأون الكتب الإليكترونية. ووفقا لنقابة الناشرين الأمريكيين فان الكتب الإليكترونية تمثل ستة بالمائة فقط من عائدات صناعة النشر، وهو ما يعني أن أربعة وتسعين بالمائة من عائدات هذه الصناعة تأتي من الكتب الورقية. نريد صناعة كتاب تستفيد من موجة الاندماج التي تشهدها وسائل الإعلام بعد ظهور وانتشار الإنترنت وتطور التكنولوجيا الرقمية. ولعل أحدث صور الاندماج الذي شهدته هذه الصناعة ونريد أن نراها في السلطنة هو ظهور نسخ اليكترونية من الكتب الورقية وظهور قارئات الكتب الرقمية. نريد أيضا أن تستفيد دور النشر العُمانية من تكنولوجيا الاتصال الحديثة، وتطوير طرق الحصول على الكتاب داخل مراكز البيع إلكترونيا، والتي تتيح للقارئ استعراض الكتب التي يرغب في اقتنائها على شاشة الكمبيوتر وتحديد ما يريد منها ثم يحدد شكل الكتاب بنفسه وحجمه لتقوم هذه المراكز بطباعته في الحال. وتخفض هذه الطريقة تكلفة الكتاب لأنها تستبعد تكاليف الشحن وأماكن العرض.
وحتى يتحقق لصناعة الكتاب في السلطنة ما نتمناه فان من الضروري اتخاذ خطوات جادة نحو تيسير إنشاء وإدارة دور النشر، وضمان المنافسة ومنع الاحتكار. ويكفي أن نعلم أن ضخامة عدد دور النشر في بعض الدول تعود في الأساس إلى التكلفة الزهيدة المطلوبة لإنشاء دار للنشر، وهو ما يسمح لأي شخص يمتلك رأسمال محدود بدخول مجال نشر الكتب، خاصة وأن تكنولوجيا الطباعة الحديثة تسمح للناشرين بالعمل من مكان، وإعداد الكتب للنشر في مكان أخر، والطباعة في مكان ثالث، كما تتيح لهم تحقيق أرباح من خلال إنتاج نسخ قليلة من الكتاب أو إنتاج نسخ عند الطلب فقط، وبعد أن يقوم الشخص أو الجهة التي طلبت الكتاب بسداد ثمنه. وفي الغالب لا يتطلب الأمر أن تمتلك دور نشر الكتاب مطابع أو خطوط إنتاج، إذ يمكن أن تعتمد في ذلك كليا على التعاقد مع المطابع والشركات التي تقدم خدمات مساندة مثل، جمع النصوص وإخراج الكتب وإدخال الصور والرسوم الإيضاحية. وفي ضوء ذلك يمكن القول إن صناعة النشر لا تتعلق بتأليف أو تحرير أو طباعة الكتب، وإنما بالعثور على الكتب والمؤلفين وإعداد الكتب للنشر ومتابعة إنتاجها ثم تسويقها وتوزيعها والمشاركة في معارض الكتب.
أكاديمي في جامعة السلطان قابوس