علي ناجي الرعوي
كنت قبل أسابيع على شاشة عربية فضائية في مداخلة على الهواء مع المحاور الذي سألني بإصرار عن ما ترسخ في أذهان البعض وبخاصة بعض كتاب الصحف العربية عن مفهوم الدولة الوطنية، ومفاصلها ومقوماتها والذين يجمعون في الأغلب على أن الدول العربية صغيرة كانت أم كبيرة لا زالت دولاً لا ينطبق عليها مفهوم (الدولة الوطنية) أو أنها التي لا تمتلك حتى الآن على الأقل إمكانية أن تكون دولاً وطنية مزدهرة وهل هذا الأمر مقصوداً ؟ أم أن الإعلام العربي يغالي في موقفه ويبني هذا الموقف من منظور هو أقرب إلى الدولة المتخيلة ولذلك فهو من يرى أن الدول العربية القائمة لا زالت أسيرة للمؤسسات التقليدية التي تنتمي إلى عصر ما قبل الدولة وأن هذه الدول لن تصنع شيئا ذا بال في المستقبل؟.
وبعيداً عن ما يقوله الإعلام العربي عن مفهوم الدولة الوطنية، وما تطرحه بعض النخب العربية الحداثية عن هذا المصطلح فلطالما واجهنا مراراً وتكراراً من يتحدث عن الإخفاق العربي الجمعي في بناء الدولة الوطنية ولطالما أيضا ما سمعنا من قبل الكثير من الباحثين والكتاب العرب من يقول بأن الدولة الوطنية المزدهرة لم تنشأ بعد في المنطقة العربية وأن ما جرى خلال العقود الفائتة لم تكن سوى محاولات متكررة لبناء هذه الدولة باءت جميعها بالفشل، ولذلك فقد قلت في تلك المداخلة وأقول اليوم: إن هناك فعلاً من يذهب في اتجاه الرفع من شأن الدولة الوطنية وبيان أهميتها وضرورتها كأساس للنهوض الشامل مادام وهذا الأمر يوفر له هامشاً مريحاً لنقد أبناء جلدته دون أن يكون له أي دور في هذا المشروع النهضوي.. وهناك في المقابل من يعتقد أن إخفاق العرب في بناء دول وطنية مستقرة ومزدهرة قد ألقى بظلاله على الواقع العربي برمته وأن ما تشهده المنطقة العربية في الوقت الراهن من حالة تفكك وتشظي ليس سوى محصلة طبيعية لذلك الإخفاق ورغم أن هذا الربط يبدو منطقياً بالنظر الى ضآلة عناصر التأثير العربي على الصعيدين الإقليمي والدولي فإنه كان سيبدو أكثر وجاهة ومنطقية لو أنه سعى إلى تشخيص الأسباب التي تقف وراء مثل هذه الإخفاقات وكيفية تجاوزها.
وعند هذه النقطة تحديداً فقد عاد المحاور ليسألني من جديد: وهل هنالك دولة عربية يصح النظر إليها كأنموذج للدولة الوطنية المزدهرة والناجحة ؟ فقلت: إن من أهم سلبيات الإعلام العربي أنه من يستند في أحكامه على مؤشر الازدهار للدولة الوطنية على العامل الاقتصادي مع أن الاقتصاد ليس دائما حاسما في إعطاء الدولة صفة الازدهار فالصين مثلا هي صاحبة اقتصاد قوي لكنها لا تصنف في قائمة المؤشر العالمي كدولة مزدهرة على اعتبار أن الازدهار لا يتحقق إلا من خلال عوامل عدة من بينها التعليم والصحة والأمن ثم الاقتصاد والحكمة الجيدة والانسجام الاجتماعي وهذه العوامل كلها هي من نجدها ماثلة على المستوى العربي في سلطنة عمان التي تمكنت خلال 47 عاماً من بناء دولة وطنية مزدهرة ومستقرة وحاضنة لجميع أبنائها على قدم المساواة ودون أي تمييز.
ربما كنت مضطراً لألفت نظر المحاور إلى أنني ومن خلال متابعتي لمسار التحول ورحلة التطور في سلطنة عمان قد خرجت باستنتاج كغيري من المتابعين لما يجري في هذا البلد العربي أن الدولة الوطنية بالمنظور العماني هي الدولة القادرة على صناعة مجتمع ينمو طبيعياً من دون عثرات أو كوابح وينطلق من ممكنات الواقع، وهذا النمط وان كان يتماثل بالنمط الكوري الجنوبي أو الأوروبي الشرقي فإنه الذي يستمد مجراه من الخصوصية العمانية وتطلعات الإنسان العماني الذي اختزل الكثير من المسافات ليصل إلى ما وصل إليه اليوم فيما ظل بعض أشقائه يدور حول نفسه أو يبحث كيف يبدأ ؟ ومن أين يبدأ ؟ للوصول الى هدفه الذي بقي هدفا نظريا لكنه فشل في تحقيقه من حيث الممارسة.
ليس من باب المصادفة أن كل من شارك معي في ذلك الحوار التلفزيوني كان مقتنعا من أن التجربة العمانية هي تجربة متميزة ورائدة بكل المقاييس مما أتاح أمام هذا البلد الفرصة لبناء دولة وطنية تطير بأجنحة متعددة مع محافظتها على عمقها التاريخي والقومي والديني والثقافي والحضاري لتغدو هذه التجربة التي كثر الحديث عنها منذ أكثر من عقد من الزمان مثار إعجاب وتقدير كل العرب ليس لأنها من تجاوزت الدوران حول المصطلحات والمفاهيم والأفكار المؤدية إلى الدولة الوطنية الناهضة فحسب ولكن لأنها من استمدت هذا التوجه وهذه الرؤية من زخم وقعها وما يرضي أبناءها وأجيالها القادمة بتواضع جم وبعيداً عن أي شعارات أو صخب إعلامي يذكر وهو ما جعل هذه التجربة ملهمة لكل الأشقاء في الدول العربية وليس عيباً في حق هذه الدول إذا ما اتجهت للاستفادة من مثل هذه التجربة خصوصا وأنها التي لا تحجبها أسوار عالية وتحول والنظر إليها والتمعن فيها واستلهام مدلولاتها إذا ما أراد أحد ذلك.
غني عن القول إن العمانيين كانوا أكثر وعيا وهم يستجيبون لتحدي الانتقال إلى الدولة الوطنية المزدهرة وكانوا اكثر شجاعة وهم ينظرون إلى حقيقة أحوالهم وإلى حقيقة الأوضاع المتقلبة في محيطهم وكذا تأثيرها على بلدهم وكانوا اكثر نضجاً حينما اقدموا على ملء كل الفراغات التي يمكن أن تتحول إلى ثغرات للنيل من التماسك والانسجام الداخلي وبما مكنهم من تجنيب وطنهم أهوال الأزمات والصراعات المتفجرة في المنطقة وكذا العصبيات المنفلتة فيها ليجعلوا من وطنهم واحة للاستقرار والأمن والسلام وساحة ترفل بالرخاء والنمو والإنجاز والتطور والألفة والتعاضد لينتزعوا بذلك موقعا ثابتا لعمان على خارطة المستقبل.
ربما لم يحظ (النهوض العماني) باهتمام كبير في دائرة الإعلام العربي أما لأنه من يحرج البعض أو لكونه يرفض أن يكون تابعا أعمى لسياسات المحاور والاستقطاب والتخندق وفضل أن يحافظ على ذات المسافة مع جميع الأشقاء والأصدقاء ومع ذلك فإن السياسة العقلانية والرصينة التي التزمت بها عمان برهنت على صوابيتها في كل المنعطفات والمراحل الأمر الذي استحقت معه احترام الآخرين في الشرق والغرب عوضا عن اعتزازهم بدورها في تمتين عرى السلام والتقارب بين الأضداد بحيادية تامة ومبدئية ثابتة وراسخة لا تؤثر فيها العواطف أو الإغراءات أو أي نوع من أنواع الضغوط أو النفاق المتبادل على الرغم مما في هذه المعادلة المبسطة من تعقيدات.
ومع ما يمكن أن تحمله هذه التجليات والتي برزت اهم اختباراتها في الجمع بين إيران وخصومها الغربيين على طاولة الحوار للتفاوض حول البرنامج النووي أو من خلال التعاطي العماني المتزن مع الأزمة الخليجية والصراع في اليمن يمكن للمرء استشراف خصائص (النهوض العماني) أكان ذلك على نطاق بناء الدولة الوطنية المزدهرة أو على مستوى العلاقة مع الآخرين في الإقليم والعالم ومما لا يختلف عليه اثنان أن كل هذه التحولات ما كان لها أن تتحقق من دون كفاءة قيادية وإدارة رشيدة وقائد محنك.
ولا نستطيع إلا أن نقول إن السلطان قابوس الذي حملته الأقدار مسؤولية هذا البلد قبل 47 عاما لا أكثر قد نجح فعلا بفطنة القائد الواثق من نفسه ومن شعبه من بناء دولة بالمعنى الحقيقي..دولة يحق لها بالفعل أن تفخر بنفسها وبما وصلت إليه في الحاضر وما ترنو إليه في المستقبل.