كارل بيلدت
تُرى هل اندفع العالَم إلى منزلق خطر يقوده إلى معركة سيبرانية فاصلة؟ لا نملك إلا الأمل في أن لا تكون هذه هي الحال؛ ولكن ينبغي لنا أيضا أن نفهم هذا التهديد وندرك أبعاده، حتى يتسنى لنا أن نركز على ما يتعين علينا أن نفعل حياله.
بدأت دول العالَم، الواحدة تلو الأخرى، تستكشف الخيارات المتاحة لتعزيز قدراتها الهجومية في الفضاء السيبراني، وهناك دول كثيرة حققت هذه الغاية بالفعل. وهو تصعيد بالغ الخطورة، بل إن اتجاهات أخرى قليلة قد تشكل تهديدا أكبر للاستقرار العالمي.
لقد أصبحت كل المجتمعات تقريبا تعتمد بشدة على شبكة الإنترنت، التي تُعَد الجزء الأكثر أهمية على الإطلاق في البنية الأساسية للعالَم ــ وهي أيضا البنية الأساسية التي تعتمد عليها كل البُنى الأساسية الأخرى. والواقع أن «إنترنت الأشياء» المزعومة تسمية خاطئة؛ فقريبا جدا سوف تصبح «إنترنت كل الأشياء». وعصرنا الحالي لا يشهد ثورة صناعية رابعة؛ بل هو بداية العصر الرقمي، ونهاية العصر الصناعي بالكامل.
أدخل العصر الرقمي نقاط ضعف جديدة يستغلها الآن بالفعل القراصنة، ومخترقو النظم، ومجرمو الإنترنت، وغير ذلك من أشكال القوى الخبيثة. ولكن الأمر الأكثر إثارة للقلق والانزعاج هو حرص الحكومات الوطنية على إدارة عمليات الحرب السيبرانية ضد بعضها بعضا.
وقد بلغنا بالفعل المرحلة التي أصبح عندها لكل صراع بُعد سيبراني. في العام 2010، عَبَرَت الولايات المتحدة وإسرائيل خطا خطيرا لا رجعة بعده، بإطلاق الهجمة «ستوكسينت» على المرافق النووية في إيران. والآن، لا أحد يستطيع أن يجزم متى قد تبدأ أو تنتهي صراعات سيبرانية جارية ولكنها مستترة.
كانت الأمور مختلفة في عالَم الأسلحة النووية القديم، فهي أجهزة معقدة وباهظة التكلفة تقوم على تكنولوجيا لا يتقنها سوى قِلة قليلة من المتخصصين من ذوي التعليم الفائق. أما الأسلحة السيبرانية فهي على النقيض من ذلك غير مكلفة عموما إذا أردت تطويرها أو الحصول عليها، واستخدامها سهل بشكل خادع. ونتيجة لهذا فإن حتى الدول الضعيفة الهشة تستطيع أن تُصبِح قوى سيبرانية كبيرة.
الأسوأ من هذا هو أن تكنولوجيات الحرب السيبرانية كانت في تكاثر بوتيرة مثيرة للانزعاج الشديد. وفي حين تنتشر سبل الحماية القائمة على نطاق واسع لمراقبة القدرة على الوصول إلى التكنولوجيات والمواد النووية الحساسة، لا يوجد أي شيء تقريبا قد يمنع نشر شفرة برمجية خبيثة.
لفهم حجم التهديد الذي يواجهنا، ليس علينا أن ننظر إلى ما هو أبعد من فيروس «وانا كراي» (WannaCry)، الذي كاد يغلق هيئة الخدمات الصحية الوطنية البريطانية بالكامل في شهر مايو الفائت. استغل الفيروس نقطة ضعف في نظام التشغيل مايكروسوفت ويندوز كانت وكالة الأمن الوطني الأميركية اكتشفته بالفعل، ولكنها لم ترفع تقريرا لإبلاغ ميكروسوفت. وبعد تسريب هذه المعلومات أو سرقتها من وكالة الأمن الوطني، سرعان ما وضعت كوريا الشمالية برنامج الفدية اللازم، وهو ما لا ينبغي أن يدهشنا. ففي السنوات الأخيرة أطلقت كوريا الشمالية العديد من الهجمات السيبرانية في مختلف أنحاء العالَم، وكان أبرزها ضد سوني بيكتشرز، ولكن أيضا ضد العديد من المؤسسات المالية.
بطبيعة الحال، كوريا الشمالية ليست استثناء. فقد طورت روسيا والصين وإسرائيل أيضا أسلحة سيبرانية، وهي منهمكة الآن في محاولة تنفيذها على أنظمة في مختلف أنحاء العالَم. وهذا التهديد المتنامي هو على وجه التحديد السبب الذي دفع دول أخرى إلى الحديث عن اكتساب القدرات السيبرانية الهجومية: فهي تريد أن يكون لديها الرادع اللازم لدرء الهجمات من قِبَل قوى سيبرانية أخرى. ربما يُعَد الأمن السيبراني معقدا وباهظ التكلفة؛ ولكن الهجوم السيبراني يعتبر غير مكلف وجذاب.
المشكلة هي أنه في حين يؤدي الردع في العالَم النووي وظيفته المرجوة، فإنه غير فعّال بشكل خاص في العالَم السيبراني.
ذلك أن القوى المارقة ــ وكوريا الشمالية ليست المثال الوحيد ــ أقل عُرضة إلى حد كبير من الدول المتقدمة للغارات السيبرانية المضادة. فهي تستطيع أن تشن الهجمات الواحدة تلو الأخرى دون أن تجازف بتحمل عواقب وخيمة.
الواقع أن منشأ الهجمات السيبرانية الغامض غالبا يزيد من صعوبة تطبيق نظرية منطقية للردع في العالَم السيبراني. ذلك أن تحديد الطرف المسؤول عن الهجوم، إن كان ذلك في حكم الممكن على الإطلاق، يستغرق وقتا طويلا؛ ويظل خطر عزو الهجوم إلى الطرف الخطأ قائما دوما. فأشك في أننا قد نرى أي دليل لا لبس فيه على أن إسرائيل تدير عمليات هجومية سيبرانية؛ ولكن من المؤكد أن هذا لا يعني أنها لا تفعل.
في ظلام الفضاء السيبراني، تستطيع قوى متمرسة أن تختبئ خلف أطراف ثالثة، والتي تصبح آنئذ عُرضة لهجمات مضادة من قِبَل الطرف الخاضع للهجوم. في عالَم تمزقه الخصومات الجيوسياسية الكبيرة والصغيرة، قد يُفضي هذا الغموض وقعقعة السيوف في العالَم السيبراني إلى نتائج كارثية. فالأسلحة النووية تخضع لأنظمة واضحة وصارمة للقيادة والسيطرة. ولكن من يستطيع أن يسيطر على جحافل من المقاتلين السيبرانيين على شبكة الإنترنت المظلمة؟
بما أننا لا نزال في المراحل المبكرة من العصر الرقمي، فلا أحد يستطيع أن يخمن على وجه الدقة ماذا قد يأتي لاحقا. فربما تبدأ الحكومات في تطوير أنظمة مستقلة لشن الهجمات المضادة، والتي حتى لو لم تقترب في كفاءتها من «آلة يوم القيامة» في فيلم دكتور سترينج لوف، فإنها ستكون كفيلة باستهلال عالَم معرض لعواقب غير مقصودة لا حصر لها.
من الواضح بشدة أن الأسلحة السيبرانية ستصبح عنصرا ثابتا في الحروب الصريحة. ويؤكد ميثاق الأمم المتحدة على حق كل الدول الأعضاء في الدفاع عن النفس ــ وهو الحق الذي بات باعتراف الجميع مفتوحا على نحو متزايد للتفسير والتأويل في عالَم رقمي دائم الحركة. كما يتناول الميثاق مسائل تتعلق بالقانون الدولي، وخاصة في ما يتصل بالبنية الأساسية غير القتالية والمدنية في مناطق الصراع.
ولكن ماذا عن الصراعات التي لا حصر لها والتي لا تصل إلى عتبة الحرب الشاملة؟ حتى الآن، فشلت الجهود الرامية إلى إنشاء قواعد ومعايير عالمية تحكم سلوك الدولة في الفضاء السيبراني. ومن الواضح أن بعض الدول تريد الاحتفاظ بكامل حريتها في العمل في هذا المجال.
لكن هذا يشكل خطرا واضحا. فكما أظهرت تسريبات وكالة الأمن الوطني، لا يوجد سبيل إلى تقييد القدرة على الوصول إلى الأسلحـــــة السيبرانية المدمرة، ولا يوجد سبب يدعو للتشبث بالأمل في أن تكون قواعد ضبط النفس التي حكمت العصر النووي ناجحة في العصر السيبراني.
إنه لأمر مؤسف أن يكون التوصل إلى اتفاق دولي لتقييد تطوير واستخدام الأسلحة السيبرانية الهجومية في المواقف غير الحربية أمرا بعيد المنال في الأرجح. وإلى أن يحدث ذلك، يتعين علينا أن نولي المزيد من الانتباه والاهتمام إلى مخاطر انتشار الأسلحة السيبرانية، وأن نحث الحكومات على تطوير قدرات دفاعية وليس هجومية. فلن يخرج أحد من سباق تسلح في الفضاء السيبراني فائزا.
وزير خارجية السويد في الفترة من 2006 إلى أكتوبر 2014