الديمقراطية خارج القومية

مقالات رأي و تحليلات الثلاثاء ٢١/نوفمبر/٢٠١٧ ٠٤:٣٢ ص

كمال درويش

وفقا للخبير الاقتصادي داني رودريك من جامعة هارفارد، من المستحيل أن تحظى أي دولة بالسيادة الوطنية الكاملة، والديمقراطية، والعولمة في وقت واحد. كما كان مفهوم «المعضلة السياسية الثلاثية في الاقتصاد العالمي»، الذي استكشفه مؤخرا خافيير سولانا، مفيدا، ولكنه غير مكتمل.

تتلخص حجة رودريك، التي تناولها بالتفصيل في كتابه الجديد، في أن الإفراط في العولمة يؤدي إلى تآكل سيادة الدولة القومية الديمقراطية، من خلال إخضاعها على نحو متزايد لقوى اقتصادية ومالية قد لا تتوافق مع رغبات الأغلبية المحلية. وبهذا المنطق، فإن الدولة الاستبدادية ربما تعمل بشكل أفضل في عالَم خاضع للعولمة، لأنها تُصبِح غير مقيدة بالمخاوف الانتخابية، على سبيل المثال.

مع خفض مستوى العولمة، تُصبِح عملية اتخاذ القرار في إطار الدولة القومية أقل تقيدا بقوى خارجية ــ وخاصة الأسواق المالية ــ وهذا من شأنه أن يعمل على توسيع نطاقها. ومن الممكن أيضا الحصول على العولمة والديمقراطية من دون الدولة القومية، وإن كان رودريك أبدى تشككه حول ما إذا كانت المؤسسات الديمقراطية قادرة على العمل على نطاق عالمي.
بطبيعة الحال، لا يصور رودريك هذه المعضلة الثلاثية باعتبارها قاعدة صلبة وسريعة. بل يتمثل هدفه في إبراز التحديات المرتبطة بتعزيز هذه الترتيبات المؤسسية الثلاثة أو الحفاظ عليها، بشكل جزئي أو كامل.
ولكن للخروج بأقصى قدر من الاستفادة من مفهوم رودريك، فمن الضروري أن نضع في الاعتبار بُعدا آخر: مستويات الحكم المتعددة الموجودة في عالَم اليوم.
تظل الدولة القومية، التي تديرها حكومة وطنية، اللبنة الأساسية في النظام الدولي. ولكن على مستوى أدنى من الدولة القومية هناك ولايات (أو أقاليم)، ومدن، ومناطق، والتي ربما يكون لها هياكل حاكمة خاصة بها.
وعند مستوى أعلى من الدولة القومية، نجد الكتل فوق الوطنية مثل الاتحاد الأوروبي والمؤسسات العالمية مثل الأمم المتحدة. وأي مناقشة للمعضلة الثلاثية لابد أن تراعي هذه المستويات المختلفة للحكم.
صحيح أن التحرر من الأوهام المحيطة بالحكم على نطاق واسع اليوم يشكل جزئيا ردة فعل عنيفة ضد العولمة، التي بدت وكأنها تفرض نفسها على الدولة القومية. ولكن ربما يكون السبب الآخر وراء خيبة الرجاء هذه أن المواطنين يشعرون بأنهم منفصلون عن حكوماتهم الوطنية.
ومع ذلك فإن الحكومات دون الوطنية ليست بعيدة كثيراً، وعادة يشعر المواطنون بأنهم لا زالوا قادرين على ممارسة قدر كبير من النفوذ عليها. ونتيجة لهذا، يبدو التوتر بين الديمقراطية والعولمة أقل حِدة على مستوى البلديات، على سبيل المثال. ومن المفيد أن الحكومات دون الوطنية تميل إلى التركيز على هموم وشواغل أكثر محلية ــ مثل البنية الأساسية، والتعليم، والإسكان ــ والتي لا يُنظَر إليها على أنها متأثرة بشدة بالعولمة.
على الطرف الآخر من الطيف تأتي هياكل الحكم فوق الوطنية، مثل الاتحاد الأوروبي. ليس الأمر أن الاتحاد الأوروبي يتعامل غالبا مع قضايا مرتبطة بالعولمة مثل التجارة فحسب؛ بل يشعر مواطنو أوروبا بأن «بروكسل» النائية المنعزلة، والتي لا يمكنهم فرض قدر كبير من التأثير عليها، تنتهك سيادة الدول القومية. وهذه المشاعر، التي تجسدت في التصويت لصالح خروج بريطانيا، يمكن ملاحظتها في مختلف أنحاء أوروبا.
كانت الطرق التي يمكن بها لهذه الديناميكيات أن تعقد معضلة رودريك السياسية ظاهرة بشكل صارخ في كتالونيا، حيث التوتر بين الديمقراطية المحلية والدولة القومية أكثر حِدة حتى من التوتر مع العولمة.
والواقع أن العديد من أهل كتالونيا يشعرون بقدر من الإحباط إزاء الحكومة الوطنية في أسبانيا أكبر من مشاعرهم المحبطة إزاء العولمة أو الاتحاد الأوروبي. وبوسعنا أن نقول نفس الشيء عن اسكتلندا في مواجهة المملكة المتحدة.
في هذا السياق، يُصبِح الارتداد إلى الدولة القومية التي ترفض العولمة، كما يحدث في الولايات المتحدة في عهد الرئيس دونالد ترامب، أكثر إشكالية، لأنه يهدد بإحياء كل الأمراض السياسية التي استحثتها النزعة القومية في الماضي.
ولكن ماذا لو تبنينا نهجا جديدا حيث تتعزز الديمقراطية على المستوى المحلي والسيادة بدلا من ذلك؟
في العديد من الدول، إن لم يكن أغلبها، تشكل المدن مراكز الإبداع والتقدم، حيث يجتذب وعد التكتل، والاقتصادات الضخمة، والفيض الإيجابي، الشركات العالية الأداء. ويشعر المواطنون بالقرب من حكوماتهم المحلية والفخر بمدنهم، لكن فخرهم بهويتهم لا يحمل الخواص الضارة التي تنطوي عليها القومية.
مع تنازل الدولة القومية عن بعض صلاحياتها للحكومات الإقليمية أو الولايات أو البلديات، تضعف المعضلة الثلاثية. ومن الممكن أن تزدهر كل من الديمقراطية، مع ما يصاحبها من شعور بالانتماء، والعولمة، التي تدفعها مدن عالمية مفتوحة على العالَم، دون أن تتسبب في إفقاد أي دولة لسيادتها.
وقد تكون الفوائد المترتبة على هذا النهج عميقة. ولكن الأمر لا يخلو من مخاطر جسيمة. فمع اجتذاب الحواضر الناجحة لحصة متزايدة من رأسمال الدولة، وعمالتها الماهرة، وقدراتها الإبداعية، من المرجح أن تواجه المناطق الريفية بشكل خاص انحدارا اقتصاديا: تراجع فرص العمل، وإغلاق المستشفيات والمدارس، وتدهور البنية الأساسية. ويخلق هذا الاتجاه، كما رأينا، أرضا خصبة للساسة الشعبويين لتقديم حلول تبسيطية تمتد جذورها إلى إيديولوجيات متطرفة تغرس بذور الفرقة والانقسام وتقوض التقدم.
ومن الأهمية بمكان لهذا السبب أن نعمل على إيجاد السبل، منذ البداية، لمساعدة أولئك الذين ربما تخلفوا عن الركب بفِعل هذا النظام. وهنا، تحتفظ الدولة القومية بدور رئيسي، وإن كان إيجاد التوازن المناسب أمرا حتميا، حتى يتسنى لنا منع المعضلة الثلاثية من فرض نفسها.

وزير الشؤون الاقتصادية التركي الأسبق، والمدير الأسبق لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي.