عودة الاستبداد في أوروبا الشرقية

مقالات رأي و تحليلات الأحد ٢٨/فبراير/٢٠١٦ ٢٣:٣٠ م
عودة الاستبداد في أوروبا الشرقية

شلومو بن عامي

الاتحاد الأوروبي انجاز رائع في فن الحكم الحديث. من خلال بنائه على قيم مشتركة، استطاع خلق مساحة من السلام والتقدم والحرية التي تغلبت على العداوات الوطنية المتجذرة عبر عقود، إن لم يكن قرون، من الصراع. لكن الخلاف السياسي الناشئ بين أعضاء أوربا الشرقية والغربية للاتحاد الأوروبي، جنبا إلى جنب مع القومية الصاعدة في جميع أنحاء القارة، وضع تلك القيم - وبالتالي مستقبل التكامل الأوروبي – على محك أشد اختبار حتى الآن.
في أوروبا الشرقية أصبحت الديمقراطية غير ليبرالية بشكل تصاعدي. وتقود المجر هذا النهج برئاسة رئيس الوزراء فيكتور أوربان، الذي تم تنفيذ رؤيته معلنا تأسيس "دولة غير ليبرالية" على مدى السنوات الفائتة. الآن تسير بولندا في نفس الطريق بقيادة حزب القانون والعدالة اليميني الذي يترأسه ياروسلاف كاتشينسكي، بعد أن تم التحكم في الإذاعة العامة والخدمة المدنية والمحكمة الدستورية منذ انتخاب الحزب في أكتوبر . وبالفعل، قرر الاتحاد الأوروبي إجراء تحقيق رسمي في الانتهاكات المحتملة للمعايير الأوروبية بشأن سيادة القانون.
وقد رافق التحرك نحو الحكم الاستبدادي في أوروبا الشرقية رفضها الصريح لنظام الحصص لاستقبال المهاجرين على مستوى الاتحاد الأوروبي، الهادف إلى تخفيف أزمة اللاجئين الضخمة التي تواجه أوروبا الآن. وفي الوقت نفسه، سجلت ألمانيا حوالي مليون من طالبي اللجوء في العام الفائت وحده.
ويعكس هذا الانقسام الاختلاف الأساسي في استجابة الجانبين للتاريخ. النهج المستنير لألمانيا في قضايا مثل الهجرة والحريات المدنية يعكس الرفض المباشر لأفعالها خلال الحرب العالمية الثانية. رغم ذلك، كما أكد المؤرخ بجامعة ييل تيموثي سنايدر في كتابه "أراضي الدماء" فغالبا ما كان المتعاونون بين برلين وموسكو يدعمون جرائم النازيين، في حين أن مجتمعات أوربا الشرقية تفتقر إلى عقدة الذنب الموجودة عند ألمانيا.
وأحد أسباب ذلك هو أن الأوروبيين الشرقيين لم يشاركوا في عملية الاستعمار. ويعتبرون أن الهجرة - من مخلفات الإمبراطورية - مشكلة يجب التعامل معها من قبل المسؤولين عن إنتاجها: القوى الاستعمارية الأوروبية القديمة. ولا تعتقد بلدان أوروبا الشرقية - الوافدة الجديدة إلى التقدم الاقتصادي الهش الذي توفره عضوية الاتحاد الأوروبي - أن لديها أي التزامات في هذا الصدد.
لكن أوروبا الشرقية لا تفتقر ببساطة إلى الإرادة لاستقبال المهاجرين، بل إنها تعارض بقوة القيام بذلك، وذلك تمشيا مع مقولة فلاديسلافكومولكاأن "الدول مبنية على أسس وطنية، وليس على أسس متعددة الجنسيات." وينبع هذا الموقف جزئيا على الأقل من الحرب العالمية الثانية، المحرقة في البداية ثم فترة ما بعد الحرب التي شهدت التطهير العرقي لأكثر من 30 مليون شخص، بما في ذلك جميع الألمان تقريبا في المنطقة. كل هذا عزز النفور منتعددية الأجناس. والحقيقة أن الدول المتعددة الجنسيات مثل تشيكوسلوفاكيا ويوغسلافيا تفككت بانهيار الديكتاتوريات التي كانت توحدها.
الذكريات التاريخية لا تموت بسهولة. لا يمكن أن يغفر البولنديون وغيرهم ممن وقعوا تحت الحكم السوفيتي بعد عام 1945 لأوروبا الغربية التضحية بهم لستالين في يالطا. ولا يعتبرون تحريرهم من الاستبداد إنجازا لأوروبا الغربية. ويكمن امتنان الأوروبيين الشرقيين في مكان آخر. لقد تحدث اليهودي المجري الحائز على جائزة نوبل ايمري كيرتيش باسم الكثيرين في المنطقة عندما اعترف عدم القدرة على التخلص من تعلقه العاطفي بالولايات المتحدة، التي حررته من بوخنفالد وساعدت في وقت لاحق على تحرير المجر من الشيوعية السوفياتية.
في أوروبا الشرقية، تصاعد الاستبداد – الذي كان سائدا حتى قبل الحقبة الشيوعية – بسبب الخوف المتأصل من أن تقع بين اثنين من العدوين التقليديين، ألمانيا وروسيا. و لا يزال ينظر إليهما بتوجس. بالنسبة لحزب القانون والعدالة واليمين البولندي، أسس بولندا الجديدة لا يجسدها نضال حركة التضامن السلمية من أجل الحرية في عام 1980، والذي أشعل مخيلة الغرب، وإنما تكمن في معركة البولنديين "البطولية ضد البلاشفة الأسيويين والجحافل الألمانية خلال الحرب العالمية الثانية. وكما قال وزير الخارجية البولندي فيتولدفازيكوفسكي ، "أوروبا المكونة من راكبي الدراجات والنباتيين"، بثقافتها الساذجة بشأن الكياسة السياسية والليبرالية، تمثل تهديدا، وليس نموذجا.
بشكل واضح، عندما هدد مفوض ألمانيا للاتحاد الأوروبي للاقتصاد الرقمي والمجتمع غونتر اوتينجر لأول مرة بوضع الحكومة البولندية تحت المراقبة لسيطرتها على وسائل الإعلام والمحكمة الدستورية، قارن وزير العدل البولندي ذلك التدقيق بالاحتلال النازي. وبكل تحد أصر كاتجينسكي على مواصلة المسار في حين رفض التهديدات "وخصوصا من الألمان."
وهذا يمثل فرقا شاسعا بالمقارنة مع السنوات القليلة الفائتة، حيث ظهرت بولندا كما الطفل المدلل للتوسع الشرقي للاتحاد الأوروبي. وإذا قادت بولندا محور الدول الأعضاء الضال، فإن قدرة الاتحاد الأوروبي لحماية الحريات المدنية داخل حدودها، ناهيك عن التأثير في بلدان أخرى مثل روسيا - سوف تتضاءل بشدة. ونظرا لعدم وجود أدوات ملزمة لوقف الدول الأعضاء من التحرك نحو الاستبداد، فإن تجنب مثل هذه النتيجة لن يكون سهلا.
أوروبا قارة مشبعة بالتاريخ ومسكونة بشبح تكراره. وإذا كان التاريخ قد لا يعيد نفسه ولكنه يتشابه كثيراً، كما لاحظ مارك توين، ينبغي على ذاكرة الماضي أن توجه أوروبا الشرقية، لا أن تصبح رهينة لها. الماضي تحذير ليس وجهة.

وزير خارجية إسرائيل الأسبق،