زاهي وهبي
الكتابة عن الماضي ليست ماضوية بالضرورة. في إمكانها أن تكون كذلك، وفي إمكانها أن تكون نوعاً من الرجوع إليه لاستخلاص العِبر والدروس والتطلع إلى أيام آتية أفضل من تلك التي مضت. لِنتفق أولاً على أن الحنين فطرة إنسانية، ما من كائن على وجه البسيطة إلا ويحنُّ إلى أمكنته الأولى وملاعب طفولته وأتراب صباه، ثمة مَن يعتبر العمر بِرُمَّتِهِ عبارة عن دائرة يعود فيها الإنسان إلى حيث انطلق، تماماً كأسماك السلمون والسلاحف التي تقطع آلاف الأميال عائدة إلى مكان ولادتها لتضع بيوضها فيه. لذا نجد الجيل الأول من المهاجرين على شوقٍ دائم إلى مسقط رأسه وأحلامه الأولى، بل إن نجوماً كباراً في العالم ليسوا من جيل المهاجرين الأوائل نراهم مسكونين بالحنين ورغبة العودة، لو من باب الفضول، إلى أوطانهم الأم، لهذا رأينا في لبنان -على سبيل المثال- شاكيرا وسلمى حايك وكارلوس سليم وسواهم من مشاهير العالم ذوي الجذور اللبنانية.
عبارة الوطن الأم بذاتها باعثة على الحُبّ والحنان والحنين، تماماً كاللغة الأم، كلُّ ما يتصف بصفات الأمومة تنشأ بينه وبين أبنائه علاقة رحمية. ثمة حبل سُرَّة لا مرئي يظل يربطنا به.
دائماً للمكان الأول نكهة مختلفة خصوصاً متى عشناه شخصياً، أو من خلال حكايات الأجداد والآباء، لا يستخفنَّ أحدٌ بتلك الحكايات ومفعولها السحري في النَّفْس والوجدان والذاكرة. حتى اليوم لا زلت أذكر عباءة جدي العربية ورائحة تبغه وتجاعيد وجهه على الرغم من أنني لم أعش قريباً منه سوى سنوات طفولتي الخمس الأولى. لكن كما هو ثابت علمياً فإن السنوات الأولى وما يترسب خلالها في وعي الطفل تشكّل مدماكاً أساسياً من مداميك شخصيته، وما سوف يحمله معه إلى يومٍ معلوم.
إذن الحنين فطرة إنسانية بديهية وطبيعية لا غبار عليها ولا جدال فيها، يذهب البعض إلى أن رغبتنا بالفردوس الأعلى وسعينا إليه ما هو إلا نوع من الحنين إلى حيث كان جدّانا آدم وحواء.
موضع الجدال هو التعلق بالماضي والتوقف عنده وعدم المقدرة على تجاوزه والرغبة بالعودة إليه والإقامة فيه بشكل دائم، تلك هي الماضوية المرضية القاتلة، هذه آفة تصيب الأفراد والجماعات على السواء. فالفرد حين يصاب بها يعجز عن التقدم الى أمام، يغدو أسير ماضيه متوهماً أنه أفضل من حاضره، وعبثاً يحاول عودةً مستحيلة إلى ماض مضى. الماضي يبدو دائماً أجمل فقط لأننا لا نستطيع استرجاعه، لأنه أفلت منا إلى الأبد، تماماً مثل الطفولة التي ليس في وسعنا عيشها إلا مرة واحدة خلال عمرنا الترابي. لو أمعنا النظر جيداً واستعدنا الماضي بكل تفاصيله لوجدنا فيه الإيجاب والسلب، الفرح والحزن، الضحك والبكاء، اليُسر والعُسر، تماماً كما هو حال الحاضر والمستقبل. فالحياة أبداً ليست عبارة عن خط مستقيم ثابت من بدايته إلى نهايته، بل عبارة عن خط كثير التعرجات يشبه إلى حد بعيد تلك الخطوط التي نراها في الأجهزة الطبية لحظة خضوعنا لتخطيط قلب أو سواه.
ما يصحّ في الأفراد يصحّ في الشعوب والجماعات، ولعل حال السواد الأعظم من العرب اليوم البرهان الساطع على ما نذهب إليه. ثمة تيارات أصولية متشددة كثيرة لم تستطع الخروج من عباءة الماضي، الأحرى لا تريد الخروج من تلك العباءة، تسعى إلى العودة نحو ما لا عودة إليه بتاتاً، لذا نراها تصطدم بالواقع وتتسبب بتفجره. لا نقول إن كل العرب ماضويون، لكن شرائح واسعة جداً منهم تقبع في ذلك الماضي الذي تراه مجيداً ولا تبذل جهداً ضرورياً ولازماً للسير قدماً، بل تفعل العكس إذ تحاول ضبط إيقاع الحياة على قاعدة الماضي، وهذا مستحيل بطبيعة الحال، فتكون النتيجة حياة معطلة أو شبهة حياة. هذه حال مجتمعات عربية واقعة تحت سطوة ماضوية مخيفة جعلتنا نتخلف عن ركب الأمم لتزداد الفجوة اتساعاً بيننا وبين شعوب الأرض المتطلعة إلى المستقبل مستفيدةً من عِبر الماضي من دون الوقوع في شرنقته.
ملاحظة مهمة نعود إليها لاحقاً بشكل أوسع: هل ظل من معنى للوطن والأمكنة الأولى والخصوصية في ظل العولمة الآخذة في الاتساع والشمول؟ ربما بفعل هذه العولمة بالذات يغدو الإنسان أكثر حرصاً على خصوصياته وأشدّ تمسكاً بهويته وأعمق حنيناً لوطنه. نقول ربما كي لا نجزم ولنترك فرصة نقاش هذا الاحتمال مطولاً في سطور لاحقة.
خلاصة ما نود قوله الآن: الماضي أجمل فقط لأننا لا نستطيع استرداده، ذاكرتنا لِحُسن الحظ تمحو السيئ وتحتفظ بالجميل عما مضى. ماضينا يفيدنا لاستخلاص العِبر والدروس في سبيل مستقبل أفضل، أما الوقوع أسرى شرنقته فتلك مصيبة قاتلة، لا مستقبل لمن لا ماضيَ له شرط عدم الجمود عند ذاك الماضي مهما كان جميلاً. العودة إليه ضرورية وجيدة إذا كانت حقاً لأجل ولادة جديدة.