تأمين الأدوية للعالم

مقالات رأي و تحليلات الأربعاء ١٥/نوفمبر/٢٠١٧ ٠٣:٥٨ ص
تأمين الأدوية للعالم

جوستوس هوكاب

يوماً بعد يوم، يتزايد الإقرار بأهمية الأمن الصحي كأساس للنمو الاقتصادي في أنحاء العالم. فالشعوب التي تتمتع بصحة جيّدة أقدر على الإنتاج والتجارة والاختراع، بينما الشعوب المريضة ترهق الموازنات العامة، وتُوجِد مخاطر لا تشجّع على التبادل الاقتصادي. وقد تردد هذا المنطق في تقارير مكتوبة لا حصر لها داخل الاتحاد الأوروبي، بل إنه يكتسب حالياً اهتماماً ودعماً داخل الولايات المتحدة، رغم نهج «أمريكا أولاً» الذي تتبنّاه إدارة الرئيس دونالد ترامب في التعامل مع الشؤون الدولية.

وإزاء هذه الخلفية، فإن لدى منظمة الصحة العالمية، تحت قيادة مديرها العام الجديد تيدروس جيبريسوس فرصة فريدة لتطبيق إصلاحات ملحة وضرورية. فقد حُكم صراحة بالفشل على تعامل المنظمة مع تفشي مرض إيبولا في غرب أفريقيا في الفترة من 2014 حتى 2016. ومع ظهور أمراض جديدة مثل زيكا -وعودة أعداء قدامى إلى الحياة كالطاعون الدبلي- فلا شك أن كثيراً من البشر ما يزالون تحت رحمة علم الأحياء. فضلاً عن ذلك، فقد ضاعفت العولمة الخطر بتسهيل انتشار الأمراض المعدية. وإن تفشياً لمرض الإنفلونزا كالذي حدث في الفترة بين عامي 1918 و1920، والذي قتل من 50 مليوناً إلى 100 مليون شخص، قد يكون أكثر تدميراً لو وقع في أيامنا هذه.

وللحيلولة دون حدوث مثل هذه النتائج الكارثية، فإننا بحاجة لنهج شامل لتقوية توصيل الرعاية الصحية في الدول منخفضة ومتوسطة الدخل، خاصة أن تلك الدول تحتاج للمساعدة لتحسين قدرتها على توصيل الدواء وإدارة الأمراض المزمنة مثل السرطان والسكري، التي تفرض عبئاً ضخماً على اقتصاداتها.
للأسف، لم تتبع قيادة منظمة الصحة العالمية، ككثير من قيادات الغرب، مسار عمل كهذا؛ نظراً لتشتت انتباهها بفِعل هوس أيديولوجي بأسعار الدواء، وإن كانت أسعار الدواء تمثل جزءاً صغيراً من المشكلة في سبيله للتلاشي في الدول التي تكافح لبناء مجتمعات صحية منتجة. فمن بين كل العقاقير الموجودة على قائمة «الأدوية الأساسية» التي وضعتها منظمة الصحة العالمية، هناك 95% منها بالفعل غير محمية ببراءات اختراع، ما يعني أن نسخاً مكافئة أرخص ثمناً متاحة في أنحاء العالم.
وفي حالات لا تصل العقاقير فيها لمحتاجيها؛ لا يكون السبب في ذلك ارتفاع أسعارها، بل اختلال الأنظمة الصحية وتعطلها وظيفياً. لكن من الأشياء الجيّدة هنا أن محللي الصحة العامة توصلوا إلى مجموعة من الإصلاحات الهيكلية التي قد تقضي بشكل كبير على الصعوبات الخانقة القائمة التي تعوق توزيع الأدوية الأساسية.
وتمثل البنية الأساسية أول موطن من مواطن المشكلة، إذ لا يحصل أكثر من نصف سكان المناطق الريفية في العالم على الرعاية الصحية الأساسية، مقارنة بخمس سكان المناطق الحضرية؛ ويرجع السبب في ذلك إلى عدم كفاية شبكات المواصلات وعدم كفاءتها، مما يجعل الحصول على خدمات الرعاية الصحية أمراً مكلِّفاً ومستهلكاً للوقت، إضافة إلى إعاقة عمليات توصيل العقاقير من مراكز الإمداد. ولو قامت الاقتصادات الناشئة بتحسين الطرق وتطوير أنظمة المواصلات بشكل كامل، لتمكنت من تعزيز النتائج الصحية، بل والفرص الاقتصادية والتعليمية أيضاً.
ثمة مشكلة ثانية حتى في المناطق التي تتمتع ببنية أساسية كافية، وهي انتشار المعوقات البيروقراطية والاقتصادية التي تقيِّد الحصول على الأدوية الأساسية. ووفقاً لدراسة أجريت العام 2008 في 36 دولة نامية، تتسبب عمليات التسجيل والموافقة المعذِّبة والمرهقة في نقص متكرر في خمسة عشر نوعاً من الأدوية المكافئة (الجنيسة) شائعة الاستخدام. في جنوب أفريقيا مثلاً، يمكن أن يستغرق وصول الأدوية الجديدة إلى السوق وقتاً يمتد حتى خمس سنوات، بسبب القوانين التي يطبّقها هذا البلد فيما يتعلق بتسجيل العقاقير وتمييزها بعلامات تجارية. وسيكون بوسع دول كثيرة زيادة إتاحة العشرات من صنوف الأدوية الأساسية في الحال إذا قامت بتيسير عمليات الموافقة على العقاقير، وألغت الرسوم، وبسّطت الإجراءات الجمركية.
وتكمن المشكلة الثالثة في النقص الشديد في العاملين بمجال الرعاية الصحية، إذ لا يستطيع المرضى في كثير من الدول منخفضة ومتوسطة الدخل الحصول على العقاقير التي يحتاجونها لعدم وجود أطباء أو ممرضات لوصف الأدوية، أو صيادلة لصرفها. ووفقاً لمنظمة الصحة العالمية، يعاني العالم من نقص يقدَّر بنحو سبعة ملايين متخصص في مجال الرعاية الصحية، ومن المتوقع أن يصل هذا الرقم إلى 13 مليوناً بحلول العام 2035. ومما يزيد الأمر سوءاً، وجود نقص أكبر في المتخصصين المؤهلين لعلاج الأمراض المزمنة مثل السكري، الذي ينتشر بسرعة في العالم النامي بسبب تغيّر الأنظمة الغذائية والعادات.
ويتمثل العائق الرابع، وربما الأكبر، أمام توصيل الأدوية بدول كثيرة في ضعف أنظمة التمويل الصحي -أو عدم وجودها بالمرة. فحتى عندما تُتاح الأدوية الأساسية سواء المكافئة أو الأصلية، لا يقدر على شرائها المرضى ذوو الدخول المنخفضة في الدول التي تقدّم دعماً ضئيلاً لمواطنيها ولا تتوافر بها آليات تأمينية مجمعة ضد المخاطر. ووفقاً لأحد التقديرات، فإن نحو 90% من سكان الدول منخفضة ومتوسطة الدخل سيواجهون الفقر والعوز إذا اضطروا لدفع ثمن صنف واحد من العقاقير المكافئة شائعة الاستخدام من جيوبهم.
ويشتهر عدد من الدول الأكثر شغفاً بنزع حمايات براءات الاختراع بالتقتير في الإنفاق على الرعاية الصحية. فالحكومة الهندية مثلاً تنفق حوالي 1% فقط من الناتج المحلي الإجمالي على الرعاية الصحية، وهو ما يقل كثيراً عن نسبة الـ5 % التي تحتاجها البلاد للتحرّك صوب التغطية الصحية الشاملة. لكن مصادرة الملكية الفكرية لشركات تصنيع الأدوية لن تفعل شيئاً لتحسين النتائج في ظل عدم وجود شبكات أمان جوهرية.
إن زيادة إتاحة الأدوية الأساسية أمر حتمي لتحسين نتائج الرعاية الصحية لمئات الملايين من الأشخاص حول العالم. وعندما لا تُثقِل أعباء المرض كاهل المجتمعات، فسيكون بإمكانها حينئذ التركيز على تعزيز الإنتاجية والاستهلاك والتجارة. لكن إهمال التهديد الذي تشكله الأمراض المعدية في العالم النامي يستدعي في الوقت نفسه كارثة لن تقتصر على دول هذا العالم النامي فحسب، وإنما ستمتد إلى الاقتصادات المتقدمة أيضاً. بوسعنا فعل الكثير لإغلاق الفجوة العالمية في الأمن الصحي، أما تقويض حمايات براءات الاختراع للعقاقير الجديدة فلن يؤدي إلا إلى النقيض تماماً.

أستاذ الاقتصاد في جامعة هاينريش هاينه