مثال الكرم العُماني

مقالات رأي و تحليلات الأربعاء ٠١/نوفمبر/٢٠١٧ ٠٤:١١ ص
مثال الكرم العُماني

فريد أحمد حسن

زيارتي القصيرة لعمان الأسبوع قبل الفائت تضمنت رحلة إلى نزوى قوامها ساعات قليلة، هناك وتحديدا في السوق المجاور لقلعة نزوى التي بناها الإمام سلطان بن سيف بن مالك اليعربي حوالي العام 1650 للميلاد حذرني صاحبي العماني من الشراء من المتاجر التي يوجد فيها كبار السن، فوجئت بالتحذير وطلبت تفسيرا، قال لي باختصار إن من طبع هؤلاء الكرم ومن ملابسك سيعرفون أنك من دولة خليجية غير عمان وأن هذا يعني أنك ضيف، حينها لن تستطيع أن تفلت منهم مهما فعلت لأنهم سيصرون على دعوتك للغداء ولن يقبلوا كل أعذارك، فأخذت بنصيحته لتأكدي من صحة المعلومة ولأن وقتنا كان ضيقاً ولا يحتمل أن ننشغل بعزيمة أهل كرم فلدينا موعد عمل في المساء في مسقط لا يقبل التأجيل. لكن مع هذا وقعنا في المحظور!

في واحد من المحلات التي تضج بالسياح حيث انشغلت مع البائع لشراء غرض ما تبين لواحد من أهل نزوى الكرام أن ابنتي التي ظلت تنتظرني في الخارج بحرينية فسألها على الفور عمن معها فأخبرته أنها معي فطلب أن تأخذه إلي. المفاجأة أن الرجل الذي كان أيضا كبيراً في السن كان كفيفاً وأصر بطريقة غير عادية على أن يكسبنا على الغداء، فبذلنا أنا وصديقي العماني جهوداً كبيرة حتى أقنعناه بأن هذا الأمر غير ممكن بسبب ارتباطاتنا الكثيرة، حينها أصر على إهدائنا شيئا من التمر كذكرى وقال اذهبوا إلى «مشاويركم» وعندما تنتهون منها قابلوني في مكان حدده لنا لنتسلم هديته فوافقنا.
بعد أن انتهينا من مشاويرنا وقبل أن نغادر نزوى ذهبنا إلى المكان المحدد والتقيناه فبدا فرحاً وأخبرنا أن التمر في البيت وركب معنا السيارة إلى بيته الذي كان واضحاً أنه يستطيع الوصول إليه بطريقة نختلف في تفسيرها، هناك أصر على أن ندخل لتناول القهوة، قال أنتم الآن عند باب بيتي ولا يمكن أن أقبل انصرافكم من دون أن «تتقهوا»، فلم نجد بدا من الدخول ورجوناه ألا يزيد الأمر عن ذلك. جاء بالقهوة وبـ»الفوالة» وتقهوينا وجاءنا بالهدية التي لم تكن كيسا من التمر كما اعتقدنا وإنما حاوية من البلاستيك بها نحو عشرين كيلوجراما من أجود أنواع التمور، وفوجئنا بعدها بأنه كان قد أعطى أهله الأمر بإعداد طعام الغداء، تبينت ذلك ابنتي التي دخلت لتسلم على أم عياله وبناته، فلم نجد بدا من توظيف بعض المهارات السالبة التي ملخصها أننا مسافرون مساء ولا بد أن نكون في مسقط قبل العصر، وهكذا «تحررنا».
كرم غير عادي غمرنا به هذا الرجل ويغمر به أهل نزوى عادة ضيوف مدينتهم، ورغم حالة الظلام التي يعيشها مضيفنا إلا أنه عبر بطرق عديدة عن فرحته بنا وبقبولنا تسلم هديته وتناول القهوة في بيته، وإن لم يكن مرتاحا من «النهاية»، وصار من الواجب الكتابة عن هذا المشهد الإنساني الرائع الذي يعبر بصدق عن أهل عمان ومفهوم الكرم لديهم، فإن تكون سائحا في عمان فإن هذا لا يعني عدم قيامهم بواجب الضيافة وإن بالترحيب بالكلمة الطيبة والابتسامة التي تمتلئ بها الوجوه والتي تعبر عن القلوب النقية لأهل هذه البلدة الطيبة (جولة سريعة في الشبكة العنكبوتية كفيلة بتبين مقدار فرحة العمانيين بالضيوف. يقول مرشد ديني خليجي في فيديو يتضمن محاضرة له تلت زيارته لمسقط إنه صلى في جامع السلطان قابوس فأكرموه بالصلاة في الصف الأول فور أن تبين لهم أنه ضيف على السلطنة، ولم يهتموا باختلاف صلاته قليلا عن صلاتهم، ثم بعد الانتهاء من الصلاة فوجئ بأن كل من أتى لتحيته قال له إن بيته مفتوح له وإنه لا مفر من قبوله بقيامهم بواجب الضيافة. وهو ما قاله ويقوله أيضا آخرون كثر زاروا ويزورون السلطنة في فيديوهات كثيرة متوفرة في تلك الشبكة).
ذلك العماني الكفيف لم يكن الوحيد الذي دعانا للاستجابة لكرمه في نزوى وفي مسقط وإن كان يمثل حالة خاصة بسبب ظروفه الصحية المتمثلة في فقده نعمة البصر، فكل من التقينا بهم – حتى أولئك الذين اشترينا منهم بعض السلع أو توقفنا لسؤالهم عن أمر ما – عبروا عن حبهم لأهلهم في دول مجلس التعاون وأصروا على تلبيتنا دعوتهم لتناول الغداء أو العشاء وعبروا عن فرحتهم بنا وعن صفة الكرم التي هي أساسية في عمان الخير، ولأنها كذلك لذا لم أجد الدهشة ترتسم على وجه أحد من الذين قصصنا عليهم ما حدث لنا في نزوى مع ذلك الرجل المضياف أو مع آخرين في مسقط وما لقيناه من أهل عمان في كل مكان من كرم لافت خلال اليومين اللذين قضيناهما هنا، فإن تتحدث عن كرم أهل عمان كأنك تتحدث عن سلوك روتيني يقوم به الناس كل يوم.
المعلومة التي لا بد من إضافتها هنا هي أن من قرأوا مقالي من الأهل والأصدقاء والمعارف الأسبوع الفائت والذي كان عن الاستثمار والسياحة في عمان وعلموا منه أنني زرت مسقط ولم أتواصل معهم بسبب ضيق الوقت لم يترددوا عن التعبير عن عدم رضاهم وتوجيه بعض اللوم والعتب لي. كلهم اعتبروا أنني «حرمتهم» من القيام بواجب الضيافة وأصروا على أن يكون لهم من ذلك نصيبا في الزيارات المقبلة.
هـــذه هي عــمــان، وهــذه أمثلة بســيطة عــن كــرم أهلــها وترحيــبهم بضــيوفهـا.

كاتب بحريني