بين مسافة أمريكية وروسية

مقالات رأي و تحليلات الأحد ٢٩/أكتوبر/٢٠١٧ ٠٤:٠٧ ص
بين مسافة أمريكية وروسية

د. فيصل القاسم

ارتبطت صورة السياسة الروسية على مدى عقود في أذهان الكثيرين بالدب الروسي الغبي. وهو مصطلح يطلق على روسيا على الدوام، ويستخدم في رسوم الكاريكاتير ليشير إلى الروس في الشرق والغرب، وقد استعير هذا الاسم ليطلق على روسيا من ذلك الحيوان القطبي الشهير الأبيض الفراء، الضخم الجثة، العظيم الأنياب، والذي لا يهمه إلا اصطياد فرائسه بأي وسيلة كانت بكل بطش وشراسة. ويبدو أن أوجه الشبه بين هذا الدب والحكم الروسي كثيرة، فهو يتسم بالعدوانية – تماماً كالدب الروسي- إضافة إلى التسلط

لكن هل يا ترى ما زالت روسيا تعمل بعقلية الدب الروسي، أم إنها بدأت في عهد بوتين تجمع بين عقلية الدب والثعلب، لا بل إن عقلية الثعلب صارت أكثر وضوحاً في السياسات الروسية منذ وصول الرئيس بوتين إلى السلطة، فوجه الرئيس نفسه أقرب إلى وجه الثعلب الذكي منه إلى وجه الدب الذي امتاز به القادة السوفييت على مدى القرن الماضي. ولو قارنا بين وجه بوتين ووجوه القادة الروس الذين حكموا الاتحاد السوفييتي على مدى أكثر من سبعة عقود في القرن العشرين، لوجدنا أن السياسة الروسية لم تتغير فقط في الجوهر، بل أيضاً في المظهر، فمنذ سقوط الاتحاد السوفييتي بدأت تتغير طبيعة الوجوه التي تحكم روسيا. صحيح أن بوريس يلتسن الذي حكم البلاد بعد انهيار الاتحاد لفترة قصيرة كان أقرب في شكله إلى العهد الفائت بملامحه الدببية، إلا أنه قد يكون آخر زعيم روسي ينتمي إلى الشكل الدبي شكلاً ومضموناً.

بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، لم يتغير شكل القائد الروسي فحسب، بل تغير جوهر السياسة الروسية، على الأقل حسبما نرى من خلال سياسات الرئيس فلاديمير بوتين على مدى العقد الفائت، فقد تخلص من الكثير من صفات الدب الروسي الجلف الذي لا يعرف سوى العدوانية والوحشية. صحيح أن الروس لم يصبحوا حملاناً وديعة، وصحيح أنهم مارسوا أفظع أنواع العدوانية والوحشية التي يتسم بها الدب الروسي، لكن هذه الوحشية لا تقتصر فقط على الروس، فالأمريكان مارسوا مثلها وأبشع في أفغانستان والعراق وحتى سوريا. لكن الذي بدأ يميّز الاستراتيجية الروسية البوتينية الجديدة أنها لم تعد تعتمد فقط على الوحشية والعدوانية المرتبطة بالدب الروسي، بل بدأت تمارس السياسة الماكيافيلية على أفضل وجه. ويكفينا أن ننظر إلى هذا الاجتياح الروسي العسكري والدبلوماسي للعالم على مدى السنوات الفائتة، إلى حد أن بريطانيا القطب الغربي الأهم باتت ترى في التمدد الروسي خطراً على أمنها القومي تحديداً، خاصة وأن الطيران الروسي اقترب من الأجواء البريطانية أكثر من مرة، وشوهد حول الفضاء الاسكتلندي. والأخطر من ذلك أن مصادر بريطانية تتهم الروس بتحريض الاسكتلنديين على الانفصال عن المملكة المتحدة.
ولو ركزنا على الاستراتيجية الروسية الجديدة في الشرق الأوسط لاتضحت السياسة الثعلبية الروسية أكثر فأكثر في مواجهة الغباء الأمريكي. وهنا نحن لا نتهم أمريكا بالحمرنة، بل الأمريكيون أنفسهم يتخذون من الحمار شعاراً للحزب الديمقراطي العريق. لاحظوا كيف بدأ الشرق والغرب يقترب من روسيا، ويبتعد عن أمريكا، خاصة في عهد ترامب الذي بات يعادي ويستفز الحلفاء قبل الخصوم. لاحظوا كيف تقف أوروبا في المعسكر الروسي الإيراني فيما يخص الاتفاق النووي مع إيران. لاحظوا كيف تقترب أمريكا من مواجهة نووية مع كوريا الشمالية، بينما تستخدم روسيا البعبع الكوري لإرهاب الأمريكيين. لاحظوا كيف تجمع روسيا القوى الكبرى الناشئة تحت جناحها في مجموعة البريكس، ولاحظوا كيف تخسر أمريكا حلفاءها الواحد تلو الآخر. حتى العرب المحسوبون على الحلف الأمريكي بدأوا يتوافدون على روسيا، ويعقدون معها صفقات مليارية. ويقول الحكام العرب القريبون من أمريكا في لقاءاتهم الخاصة مع المسؤولين الروس إن روسيا صارت موثوقة أكثر من أمريكا لأنها لا تخون حلفاءها. وبينما تخسر أمريكا أصدقاءها، نجد أن روسيا تمكنت من التقارب مع حلفائها وخصومها ببراعة واضحة في الفترة الأخيرة. لقد فرضت روسيا نفسها، كما يرى الباحثون، كلاعب دولي أساسي «على مسارح الشرق الأوسـط وجبهـاته عبر اختراقها الاستراتيجي في سوريا، وعلاقاتها المرسخة أو الجديدة مع الدول العربية في الخليج ومصر وشمال أفريقيا، بالإضافة لحلف المصلحة مع إيران والتنسيق المرن مع إسرائيل والصلة المستعادة مع تركيا.
هل صار الدب الروسي فعلاً أذكى وأكثر حنكة بكثير من الحمار الأمريكي، أم إن الأفخاخ التي ينصبها الأمريكي للروسي في أكثر من منطقة ستنفجر في وجهه في قادم الأيام، وستثبت مرة أخرى أن الدب الروسي ما زال دباً؟

إعلامي في قناة الجزيرة