الملكية الفكرية تحتاج مراجعة عالمية

مقالات رأي و تحليلات الثلاثاء ٢٤/أكتوبر/٢٠١٧ ٠٣:٤٧ ص

جوزيف ستيجليتز
دين بيكر
أرجون جياديف

عندما حاولت حكومة جنوب أفريقيا تعديل قوانينها في العام 1997 للاستفادة من الأدوية غير المسجلة تجارياً ميسورة التكلفة لعلاج المصابين بفيروس نقص المناعة البشرية «الإيدز»، سارعت صناعة المستحضرات الصيدلانية العالمية إلى استخدام كامل قدرتها القانونية ضد جنوب أفريقيا، مما أدى إلى تأخير التنفيذ وفرض تكلفة بشرية باهظة. وفي نهاية المطاف، كسبت دولة جنوب أفريقيا قضيتها، ولكن الحكومة تعلمت الدرس: فلم تحاول مرة أخرى وضع صحة مواطنيها ورفاهتهم بين يديها من خلال تحدي نظام الملكية الفكرية العالمية التقليدي. الآن، تستعد حكومة جنوب أفريقيا لوضع الصيغة النهائية لسياسة الملكية الفكرية التي تَعِد بتوسيع القدرة على الحصول على الأدوية بشكل كبير. وستواجه جنوب أفريقيا الآن دون أدنى شك مختلف أشكال الضغوط الثنائية ومتعددة الأطراف من قِبَل الدول الغنية. ولكن الحكومة على حق، وينبغي للدول النامية والاقتصادات الناشئة الأخرى أن تحذو حذوها. على مدار العقدين الفائتين، نشأت مقاومة جدية من قِبَل دول العالَم النامي ضد نظام الملكية الفكرية الحالي. ويرجع هذا إلى حد كبير إلى سعي الدول الغنية إلى فرض نموذج واحد يناسب الجميع على العالَم، من خلال التأثير على عملية وضع القواعد في منظمة التجارة العالمية وفرض إرادتها من خلال الاتفاقيات التجارية. الواقع أن معايير الملكية الفكرية التي تفضلها الدول المتقدمة تصمم عادة ليس لتعظيم الإبداع والتقدم العلمي، بل لتعظيم أرباح شركات الأدوية الكبرى وغيرها من القادرين على توجيه المفاوضات التجارية. ليس من المستغرب إذن أن تتولى الدول النامية الكبرى التي تملك قواعد صناعية كبيرة -مثل جنوب أفريقيا، والهند، والبرازيل- قيادة الهجوم المضاد. تستهدف هذه الدول في الأساس المظاهر الأكثر وضوحاً للظلم الذي ينطوي عليه نظام الملكية الفكرية: القدرة على الحصول على الأدوية الأساسية. ففي الهند، أنشأ تعديل يرجع إلى العام 2005 آلية فريدة لاستعادة التوازن والعدالة لمعايير تسجيل براءات الاختراع، وبالتالي حماية القدرة على الحصول على الأدوية. ومع تغلبه على التحديات العديدة التي تفرضها الإجراءات المحلية والدولية، تبيّن أن القانون يمتثل لمعايير منظمة التجارة العالمية. وفي البرازيل، أسفرت التدابير المبكرة التي اتخذتها الحكومة لعلاج المصابين بفيروس نقص المناعة البشرية «الإيدز» عن عدد من المفاوضات الناجحة، الأمر الذي أدى إلى خفض أسعار الأدوية بشكل كبير. الواقع أن هذه البلدان لديها ما يبرر تصرفاتها تماماً في معارضة نظام الملكية الفكرية غير المنصف وغير الفعّال.

المشكلة الرئيسية هنا هي أن المعرفة تمثل سلعة عامة (عالمية)، سواء بالمعنى الفني حيث لا تكلف الشخص الذي يستخدمها شيئاً، أو المعنى الأكثر عموماً حيث تعمل الزيادة في المعرفة على تحسين الرفاهة على مستوى العالَم. وعلى هذه الخلفية فإن مصدر القلق كان عجز السوق عن توفير القدر الكافي من المعرفة، وعدم تحفيز الجهود البحثية على النحو الكافي.

طوال فترة أواخر القرن العشرين، كان الرأي التقليدي السائد هو أن فشل السوق على هذا النحو يمكن تصحيحه على أفضل نحو من خلال تقديم نظام آخر: الاحتكارات الخاصة الناشئة عن فرض براءات الاختراع بدقة صارمة. ولكن حماية الملكية الفكرية الخاصة ليست سوى سبيل واحد لحل مشكلة تشجيع وتمويل البحوث، وكان الأمر أشد تعقيداً من كل التوقعات، حتى بالنسبة للدول المتقدمة. في بعض الأحيان، كان العدد الضخم المتزايد من براءات الاختراع في عالَم المنتجات التي تتطلب الآلاف من براءات الاختراع سبباً في خنق الإبداع، مع إنفاق قدر من الأموال على المحامين أكثر من ذلك الذي ينفق على الباحثين في بعض الحالات. وكثيراً ما يوجه العمل البحثي ليس إلى إنتاج منتجات جديدة بل نحو توسيع نطاق وتعظيم القوة الاحتكارية الممنوحة من خلال براءات الاختراع.
كان القرار الصادر عن المحكمة العليا في الولايات المتحدة العام 2013 بعدم جواز إصدار براءات الاختراع للجينات الطبيعية بمثابة اختبار لمعرفة ما إذا كانت براءات الاختراع تحفّز البحث والإبداع، كما يزعم أنصارها، أو تعرقل البحث والإبداع من خلال تقييد القدرة على الوصول إلى المعرفة. والنتائج واضحة بلا أدنى لبس: فقد تسارع الإبداع على النحو الذي أدى إلى ظهور اختبارات تشخيص أفضل (على سبيل المثال، لوجود الجينات المرتبطة بسرطان الثدي) وبتكاليف أقل كثيراً. هناك ثلاثة بدائل على الأقل لتمويل وتحفيز البحوث. يتلخص الأول في الاعتماد على آليات مركزية لتوفير الدعم المباشر للبحوث، مثل المعهد الوطني للصحة ومؤسسة العلوم الوطنية في الولايات المتحدة. ويتمثل البديل الثاني في التمويل المباشر غير المركزي، ولنقل من خلال الإعفاءات الضريبية.
ينبغي للاقتصادات النامية أن تستخدم كل هذه الأساليب لتعزيز التعلم والإبداع. ففي نهاية المطاف، أدرك أهل الاقتصاد لعقود من الزمن أن المحدد الأكثر أهمية للنمو -وبالتالي تحقيق المكاسب في التنمية البشرية والرفاهة- هو التغيّر التكنولوجي والمعرفة التي تجسّده. وتفصل الفجوة في المعرفة بين الدول النامية والدول المتقدمة بقدر ما تفصل فجوة الموارد بين الفئتين. ولتعظيم الرفاهة الاجتماعية العالمية، ينبغي لصنّاع السياسات أن يشجعوا بقوة نشر المعرفة من الدول المتقدمة إلى الدول النامية.

ولكن رغم قوة الحجة النظرية لصالح نظام أكثر انفتاحاً، كان العالَم يتحرّك في الاتجاه المعاكس. فعلى مدار السنوات الثلاثين الفائتة، أقام نظام الملكية الفكرية السائد المزيد من الحواجز التي تحول دون استخدام المعرفة، كما يعمل في الأغلب على توسيع الفجوة بين العائدات الاجتماعية المترتبة على الإبداع والعائدات الخاصة. ومن الواضح أن جماعات الضغط القوية في الاقتصادات المتقدمة والتي شكلت هذا النظام تضع المصالح الخاصة أولاً، وهو ما ينعكس في معارضتها لأي بنود تعترف بحقوق الملكية الفكرية المرتبطة بالمعارف التقليدية أو التنوع البيولوجي. ونظام الملكية الفكرية الحالي فضلاً عن ذلك غير مستدام. ذلك أن الاقتصاد العالمي في القرن الحادي والعشرين سيختلف عن نظيره في القرن العشرين من جانبين حاسمين على الأقل. فأولاً، سيكون الثِقَل الاقتصادي لاقتصادات مثل جنوب أفريقيا والهند والبرازيل أكبر كثيراً. وثانياً، سيشكل «الاقتصاد الذي لا يمكن وزنه» -اقتصاد الأفكار، والمعرفة، والمعلومات- حصة متزايدة من الناتج في الاقتصادات المتقدمة والنامية على حد سواء.من الأهمية بمكان أن تتغيّر القواعد المرتبطة بإدارة المعرفة العالمية بحيث تعكس هذه الحقائق الجديدة. ومن الواضح أن نظام الملكية الفكرية الذي أملته الدول المتقدمة قبل أكثر من ربع قرن من الزمن، في الاستجابة لضغوط سياسية من قِبَل قِلة من قطاعاتها، لم يعد منطقياً في عالَم اليوم. ولم يكن تعظيم أرباح القِلة، بدلاً من تعزيز التنمية العالمية ورفاهة العالَم لصالح غالبية البشر، منطقياً آنذاك أيضاً -باستثناء ما يتصل بديناميكيات السلطة في ذلك الوقت.الآن تتغيّر هذه الديناميكيات، وينبغي للاقتصادات الناشئة أن تتولى زمام المبادرة في إيجاد نظام متوازن لإدارة الملكية الفكرية يعترف بأهمية المعرفة لأغراض التنمية، والنمو، والرفاهة. والمهم ليس فقط إنتاج المعرفة، بل وأيضاً استخدامها على نحو يقدم في الأهمية صحة البشر ورفاهتهم قبل أرباح الشركات. وربما يكون القرار المحتمل من قِبَل جنوب أفريقيا بتمكين الحصول على الأدوية مَعلَماً مهماً على الطريق نحو تحقيق هذه الغاية.

جوزيف ستيجليتز: حائز على جائزة نوبل في علوم

الاقتصاد، وأستاذ في جامعة كولومبيا.

دين بيكر: المؤسس المشارك لمركز البحوث الاقتصادية والسياسية. أرجون جياديف: مدير مركز الأبحاث في جامعة عظيم
بريمجي، وأستاذ الاقتصاد في جامعة ماساتشوستس.