المحرق والقاهرة

مقالات رأي و تحليلات الأحد ٢٢/أكتوبر/٢٠١٧ ٠٤:٣١ ص
المحرق والقاهرة

أحمد المرشد

يقول المثل العربي الشائع: «القلب يعشق كل جميل»، و»إن عشقت أعشق قمر..» و «القلب مالوش غير واحد يسكنه» و «البعيد عن العين بعيد عن القلب»..هكذا هو أنا باستثناء «القلب»، لأني قلبي مقسوم ما بين البحرين ومصر، بين المحرق منبتي وكينونتي وأمي الحبيبة وبين القاهرة مقري وملاذي الدافئ الحنون، فأنا أحيا مسافرا وسائحا بين الإثنين، وأقسم نبضات قلبي بين المحرق والقاهرة، وعندما أكون بمصر الحبيبة أشعر بالاعتزاز بأني أعيش في هذا البلد وأعمل فيه باسم بلدي البحرين، وأفخر بأني بحريني أعمل في هذا البلد المضياف، بيت العرب جميعا، فمصر مصدر إلهام الأدباء والشعراء وموطن الفن وكل العلوم والفنون، بلد التاريخ والأصالة.‪ ‬

أعيش وسط المصريين الذين يعرف عنهم عدم الميل إلى التصلب أو العناد، فهم شعب ودود يميل للمرونة اللهم إلا ما يمس كرامتهم أو دينهم وكلنا في هذا سواء، وتجد كلمة «ماشي» منتشرة في أوساطهم على سبيل المثال ولكن مع عدم التجاوز في حقهم أو التنازل عنه.

وربما فرض نهر النيل على المصريين حب الاستقرار، فالنهر الخالد أرسي على شاطئيه الخضرة والطبيعة الزراعية، الأمر الذي جعل المصريين يميلون للمحافظة على الاستقرار والتمسك به حتى أصبحت هذه الحالة جزءاً من سماتهم الأصيلة لقرون طويلة. ويتميز المصريون الذين عشت معهم سنوات طويلة من عمري بالصبر والشعور بالرضا بل والتسليم بالرضا، فالصبر أحد سمات الشخصية المصرية، وهو احتمال الشيء الصعب، ويتميز المصريون بقيم دينية نبيلة تعلى من قيمة الصبر وتعد الصابرون بالجنة «فاصبر صبراً جميلا.....»، و»إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب»، وربما مبعث هذا الصبر بيئتهم الزراعية التي تربوا عليها قديما، حيث اعتادوا وضع البذور ثم ينتظرون وقت الحصاد صابرين على أمل أن تكون الغلة ممتازة ومثمرة، والغلة هنا تأتي بعد شهور وليس ساعات أو أياما، فالصبر أصبح أمرا حتميا ولا بديل عنه، فتعجل الحصاد ليس من طباعهم ويؤمنون بأن هذه هي إرادة المولي عز وجل، فلا يستعجلون الزمن حتي وإن مر إيقاعه بطيئا. ومع طول الصبر تحولوا إلى شعب قنوع راضٍ بما قسم الخالق لهم، فالصبر والرضا متلازمان، وكل هذا يرتبط بهم حياتيا حتى أن بعضهم يعلق بعض هذه الآيات في منزله أو في محله لتكون شعاره في الحياة ولا تغيب عن نظره لحظة ليتذكرها في كل لحظة، فالقناعة رضا والرضى قناعة.
ولا يفوتني الإشارة إلى ميزة مهمة للمصريين يعرفها من يعيش وسطهم عن قرب، وهي حبهم للحياة والفرح والمرح، حتى وإن مروا بأيام أو ظروف غاية في القسوة والمرارة والحزن، فرغم ما يميز الشخصية المصرية من حزن تؤكده عاداتهم وطقوسهم خاصة عند فراق الأهل والأحباب، وعشقهم لصوت الناي الحزين، إلا أنهم لا يفوتون وقت الفرح ويمرحون. وللفرح مظاهره، فتراهم يحبون ويحيون كل الأعياد، والأعياد لدى المصريين تتسم بطبائع ومظاهر خاصة. ففي الحزن يحزنون وفي الفرح يمرحون.
فالمصريون رغم أزماتهم لا تغادرهم الدعابة، ويحولون كل ما يمر بهم من نكبات أو أزمات حتى لو كانت معيشية الى مصدر للنكتة والدعابة، فهم شعب خفيف الظل حتى لو مروا بأحلك الظروف وهذه ميزة أحبها فيهم. وأتذكر قبل أشهر عندما ارتفعت أسعار المحروقات في مصر، فمع هذه المأساة التي كلفت معظم الأسر المصرية مبالغ طائلة ورفعت معدل التضخم هناك بصورة كبيرة، انهالت على مواقع السوشيال ميديا كم من الدعابات والنكات والصور الساخرة من القرار الحكومي، ولعلي اعتقد أن صاحب قرار رفع سعر المحروقات والوقود لو قرأها وهو بالتأكيد أطلع عليها، لفكر ألف مرة قبل إعلانها خوفا من تعرضه لمثل هذه السخرية.
ولا يفوتنا هنا الإشارة الى ميزة كبيرة وعظيمة تميز المصريين، وهي حبهم لمساعدة الآخرين، فالمصريون شعب طيب بالفطرة، وتراه وقت الأزمات يسارع لمد يد الخير والمساعدة، ويكون مقدما للخير بسرعة. ولا أكون مبالغا إذا قلت أنه يسهل على أي شخص تمييز الوجه المصري من طيبته وابتسامته التي تمنحه طاقة إيجابية مستمرة يستمد منها حبه للحياة رغم قسوتها، وفي القاهرة تحديدا وعلى سبيل المثال لن يفوتك مشاهد صعب نسيانها ما حييت خاصة إذا اعتدت على زيارة منطقة عريقة مثل «الحسين» و»الأزهر»، فمن بائع العرقسوس والعصائر المثلجة على كتفه إلى بائع الترمس والتسالي وغزل البنات، كما لا يفوت زائر المنطقة أو في مكان بالقاهرة موزع الخبز الذي يقود دراجة ويحمل ما يسمونه «ققص» من الخوص به مئات الأرغفة من الخبز في مشهد لن تراه سوى بمصر تقريبا، ويندر أن يقع منه الخبز رغم ثقل الحمل حيث يقود بيد واحدة فيما يحمل القفص بالأخرى.ولعله قلبي الذي يعشق كل جميل يشتاق وهو في القاهرة بحنين وحب الى البحرين بلدي الأم أرض الخلود، لؤلؤة الخليج، بلد الأهل والأحباب، مرتع الصبا والشباب، فيها أغلى وأحن حبيبة سبب وجودي في هذه الحياة، هي أمي حبيبتي الغالية أطال الله في عمرها، فيها أهلي جميعا وأصدقائي وأحبتي، إنها البحرين أرض الشموخ والإباء التي يقول التاريخ عنها إنها عرفت الإسلام على يد الصحابي العلاء الحضرمي الذي تولى إمارة البحرين في عهد الرسول الكريم سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة والسلام، وتمر عليها الأيام والسنون لتبدأ عهدها العربي تحت قيادة المؤسس الأمير أحمد بن محمد آل خليفة (الفاتح)، وهو الذي أرسى للبحرينيين وحدتهم الوطنية ووجهتهم العربية والإسلامية. وعرف عن الفاتح التقوى والإصلاح وحب تقريب العلماء منه.
والشيء بالشيء يذكر ولكن مع تغيير بسيط، فعندما أتحدث عن القاهرة كعاصمة لمصر وعشقي، لن تكون مقارنتي عاصمة بعاصمة، ولكن بمدينة عريقة، وأقصد هنا مدينة المحرق، منبتي التي عشت فيها طفولتي وريعان شبابي ونضوجي، عروس البحرين، وموطن العلماء والتجار التي تضم أزهى وأبهى المناظر، ولم لا؟.. فمياه البحر تحيطها لتصورها لوحة أبدع الخالق في رسمها، فمن جمال الطبيعة وزرقة المياه التي تطغي عليها منحت صورتها روعة وجمال..لم تكن الطبيعة الخلابة هي المزية الوحيدة لمعشوقتنا المحرق، فلها ما يميزها تاريخيا بمعالمها الشاهدة على عراقتها، ففيها بيت الشيخ عيسى بن على آل خليفة في فريق الشيوخ وبيت سيادي ومسجد سيادي ويعد من أشهر بيوت اللؤلؤ في المملكة وهو لا يزال أثرا شامخا وقائما. وعلى أرضها الدافئة الحنون، لا يفوت زائرها المرور على بيت بن خاطر أحد أهم البيوت التراثية وبجواره مسجد بن خاطر بشكله الحديث والذي يحافظ على نفس تراثه القديم. ومعالم المحرق كثيرة والشواهد على أصالتها وعراقتها اكثر لا يتسع المقام هنا لذكرها.
وختاما..ربما من فرط حبي لمصر والقاهرة أني فضلت العمل بها حيث تستهويني مهنتي التي أعشقها وهي الإعلام، وأتذكر عندما أجرى معي التليفزيون المصري مقابلة عندما شغلت منصب مدير عام موقع «صدى العرب» فقال لي المذيع: «تعودنا أن نرى خبرات مصرية متعددة كالمهندسين والأطباء والمدرسين والإعلاميين وغيرهم يعملون بمختلف الدول العربية، ولكن أن يقود إعلامي بحريني صرحا إعلاميا بمصر فهذا مصدر اعتزاز للبحرين أن يكون أحد أبنائها يعمل في المجال الإعلامي خارج بلاده وينجح فيه».. فما كان مني سوى الاعتزاز بهذه الشهادة وأضفت عليها، أن الخبرات لا تتجزأ وهي متراكمة، وبإمكان كل بحريني في وقتنا الراهن أن يضيف لبلاده في أي محفل دولي خبراته التي اكتسبه في ملكة البحرين، فكلنا فخر لبلادنا الحبيبة..وألم أقل لكم في البداية أن قلبي مشغول بمصر والبحرين، ومن فرط حبي لكلاهما عملت بمصر حتى أعود لبلادي وقت الإجازات، وهكذا تدور الأيام.

كاتب ومحلل سياسي بحريني