علي ناجي الرعوي
يبدو أن اليمن تجاوز مرحلة الانقسام السياسي والعسكري، وحتى الجغرافي ليصل أخيراً إلى (مأسسة الانقسام) وتحويله إلى مأزق يصعب السيطرة عليه أو تصور إمكانية الخروج منه سيما وذاك الانقسام لم يعد يهدد الهوية التاريخية التي همشت أو الثوابت الوطنية التي اهتزت أو النسيج الاجتماعي الذي تشظى وتمزق ودخل في صراعات مميتة، وإنما هو الذي صار يشكل خطراً مستقبلياً على ما تبقى من حقائق الجغرافيا الواحدة والتاريخ المشترك في هذا البلد.
لا جدال في أننا أمام مشهد يمني مقلق جداً فالتطورات الدراماتيكية المتسارعة في هذا المشهد لا تنذر فقط بانهيار بنية الدولة اليمنية المتهالكة، وإنما بسقوط البلاد في اتون فوضى داخلية تؤسس لحروب قادمة لا يمكن التنبؤ بنتائجها المستقبلية ومثل هذا الاحتمال تتصاعد وتيرته بقوة في ظل غياب مؤسسة عسكرية قادرة على أن تشكل القوة الجبرية الشرعية التي يعول عليها حماية البلاد من ذلك المصير المجهول بعد أن جرى تفكيك المؤسسة العسكرية، والأمنية اليمنية بشكل غير مفهوم في أعقاب موجة (الربيع العربي) بحجة أن معظم القادة الفاعلين في تلك المؤسسة كانوا من الأقارب قبلياً أو جهوياً أو سياسياً للرئيس الأسبق علي عبدالله صالح الذي تنحى عن السلطة بموجب المبادرة الخليجية في فبراير 2012 ليصعد بدلاً عنه الرئيس الحالي عبدربه منصور هادي كرئيس توافقي لمدة عامين قبل أن تعود الأمور في البلاد إلى نقطة الصفر في صراع تداخلت فيه الكثير من الابعاد والعوامل التي عرقلت الوصول لتسوية سياسية شاملة خلال المدة المحددة.
ومع كل العيوب والمأخذ على مؤسسة الجيش التي جرى تفكيكها او إعادة هيكلتها فان هذه المؤسسة غداة خروج صالح من الحكم كانت من حيث الشكل على الاقل تتسم بالطابع الوطني فجميع الوحدات العسكرية تقريبا كانت تضم في داخلها أفرادا من معظم محافظات اليمن حتى وان بدا توازن النفوذ الفعلي فيها مختلا لصالح الفئات الموالية للنظام الاسبق الا أن ذلك يظل افضل بكثير من الجيوش التي يتم تشكيلها حاليا في اليمن على أسس وخلفيات جهوية او فئوية او فصائلية كما هو حال ما يسمى بقوات (النخبة الحضرمية) الخاصة بمحافظة حضرموت او (النخبة الشبوانية) في محافظة شبوة او غيرها من التشكيلات العسكرية التي استحدثت في محافظات شمالية وجنوبية ففي محافظة عدن وحدها يمكن احصاء ثلاث مكونات عسكرية بنيت على تلك الأسس التي جعلت منها مجموعات متنافرة لا يجمعها أي جامع وطني.
وإذا ما افترضنا أن الحرب في اليمن ستتوقف في اللحظة التى تشعر فيها كل الاطراف بالإنهاك فإن وجود هذا الخليط غير المتجانس من الجيوش والمليشيات كفيل بتكريس قاعدة (السيادة المتعددة) وعلى النحو الذي حدث في الصومال قبل اكثر من ربع قرن او ربما اسوأ منه حينما عمد امراء الحرب في ذلك البلد الى انشاء مثل تلك الجيوش التى عملت على اسقاط اخر معاقل الدولة ليظهر على اثر ذلك مصطلح (الدولة الفاشلة) في اوائل تسعينيات القرن الفائت مقترنا بما حل في الصومال إلا انه ورغم ما تمخض عنه السيناريو الصومالي من كوارث وأهوال لا زالت مستمرة حتى اليوم فما يدور اليوم في اليمن من احداث وعنف هو من يتواضع امامه السيناريو الصومالي إذ حالة الاضطراب السياسي والعسكري في اليمن لا تقترن فقط بسلوك القوى المحلية المتصارعة بل ان القوى المتدخلة عسكريا على أرضه سواء بصفة مباشرة أو غير مباشرة قد سعرت هي الأخرى من مظاهر الانفلات بمجرد أن اتجهت إلى خوض معركة (كسر عظم) ضد بعضها البعض على الساحة اليمنية مما فتح الباب واسعاً لانهيارات متعددة تخطت بموجبها اليمن حاجز الدولة الفاشلة أو الهشة وكذا الصوملة لتنتقل فعليا الى منحدر الدولة المنهارة المفتوحة على كل الاحتمالات.
قد يتساءل البعض: من المسؤول عن ايصال اليمن الى هذا المنحدر الخطير؟.. والجواب أن لا أحد من الأطراف الداخلية والخارجية المشاركة او المتدخلة في الصراع يستطيع أن يتنصل من مسؤوليته عما حدث فما آل إليه الوضع في اليمن لا يمكن ان يكون من صناعة طرف واحد.. صحيح أن الأمور نسبية لكن الجميع كان حاضراً في تفاصيل النكبة التي أصابت اليمن حيث وإن الخلاف الذي بدأ في صنعاء كصراع سياسي على السلطة لاشك وأن مجموعة من الأخطاء والتحركات والتدخلات والقرارات غير الصائبة هي من عملت على تقويته وترسيخه حيث تشي كل المعطيات القائمة على أرض الواقع من أن مسار الحلول منذ انطلاقه عبر المبادرة الخليجية مطلع 2012 كان مسارا غامضا ويعتمد على وضع انصاف الحلول ودون أن يكملها مما زاد الوضع تعقيداً وانفلاتاً وانقساماً فإصرار الأمم المتحدة وممثلها السابق على انعقاد مؤتمر للحوار متعدد المسارات دون تنسيق مسبق مع الأطراف والمكونات التي ستشارك في ذلك الحوار حول القضايا التي ستطرح للنقاش هو من جعل من ذلك المؤتمر يفقد إيقاعه ويسقط في نهاية المطاف في قاع الخلافات خصوصاً بعد أن شعرت مكونات عدة من أن الكثير من مخرجاته جاءت ملبية لمطالب الخارج أكثر منه الداخل.
لم يكن مستغربا أن يلجأ مبعوث الأمم المتحدة جمال بنعمر ومعه سفراء الدول العشر إلى تحويل مؤتمر الحوار الذي استمر ما يقارب العام إلى ما يشبه نهر الغانغ الذي يذهب إليه الهندوس للتطهر من آثامهم فقد سعى بنعمر وأولئك السفراء من خلال المؤتمر إلى فرض مفهوم معين للتغيير في اليمن يعيد تعريف معادلة الشراكة والثروة والقرار السياسي وقد يكون من المثير حقا أن يتم وانطلاقا من ذلك المفهوم تحفيز المجموعات الأهلية على استظهار تعريفاتها المنطقية والجهوية والمذهبية على نحو غير مسبوق لتتسلل محركات الانقسام الأهلي الحاد داخل ذلك المؤتمر وبما سمح بتفجير مخزون من الصراعات السياسية الطويلة التي تقع في قلب تعقيدات العلاقات بين اليمنيين.
وفي هذا الصدد فقد كان موضوع الفيدرالية وتقسيم اليمن إلى أقاليم يقع في صلب المقدمات التي قادت إلى الحرب حيث مثّل ذلك الموضوع عنصرا اشكاليا ومع ذلك فقد تعاملت السلطة الانتقالية مع اعتراضات البعض بصورة غلب عليها التشدد بل انها من اتجهت إلى فرض التقسيم الفيدرالي حتى قبل الاستفتاء عليه في الدستور الجديد في حين أنه كان بالإمكان تأجيل هذا الموضوع أو إعادة النقاش حوله، والخروج بصيغة يقبلها الجميع إلا أن كل هذا لم ينتبه له الرئيس هادي أو أنه انتبه وما كان باليد حيلة.
من المهم التذكير هنا بأن انهيار الدولة في اليمن لن يمر مرور الكرام على غرار انهيار الدولة الصومالية، والذي لم يترك تأثيرات مزعجة ربما على الدول العربية بسبب عدم الاتصال الجغرافي للصومال مع باقي الدول العربية أما اليمن الذي يقع على الخاصرة الاستراتيجية لمنطقة الخليج ويطل على أهم الممرات المائية في البحر الأحمر، وخليج عدن وأبرزها مضيق باب المندب فإن انهياره وسيرورة سقوطه المريع فانه الذي ستكون له عواقب وخيمة على جغرافيات البلدان العربية كلها.
كاتب يمني