القيصر الروسي مع البابا والبطريرك

الحدث الأربعاء ٢٤/فبراير/٢٠١٦ ٢٣:٥٥ م
القيصر الروسي مع البابا والبطريرك

نينا خروشوفا

تَعَلَّم الرئيس الروسي فلاديمير بوتن من سنوات عمله كضابط في الاستخبارات السوفييتية كيف يستغل الآخرين. وفي سيرة ستيفن لي مايرز الجديدة الممتازة بعنوان "القيصر الجديد"، يَصِف رئيس مكتب نيويورك تايمز السابق في موسكو كيف بَرَع بوتن عندما أُرسِل إلى ألمانيا الشرقية في سنوات الشيوعية الأخيرة في استغلال نقاط الضعف التي تعيب خصومة لتعزيز القضية السوفييتية.
ويُعَد اللقاء التاريخي اليوم بين البابا فرانسيس والبطريرك الأرثوذكسي الروسي كيريل (كيريلوس) في كوبا مناسبة أخرى يسعى بوتن إلى تحويلها إلى أداة لخدمة مصالحه. وسيكون هذا اللقاء هو الأول بين بابا روماني وبطريرك روسي منذ انشقاق المسيحية العظيم في عام 1054 ميلادية، عندما أدت الاختلافات اللاهوتية إلى انقسام العقيدة الإيمانية إلى فرعيها الغربي والشرقي. ومنذ ذلك الحين، كانت الكنيسة الأرثوذكسية (باللغة الروسية Pravoslavie، أو حرفيا "العبادة الصحيحة") تُعتَبَر الشكل الصحيح الوحيد من المسيحية في روسيا، مع رفض طوائف ومِلل أخرى بسبب دعمها للفردية وعدم احترامها للروح البشرية بالقدر الكافي.
على مدار ما يقرب من الألف عام، بدت العداوة بين الجانبين وكأنها عقبة منيعة لا يمكن تذليلها. وفي العصر الحديث، تطلب الأمر نشوء التهديد باندلاع حرب نووية لتحريك الجهود الرامية لإصلاح العلاقات بين الشرق والغرب ــ بل وحتى في ذلك الوقت كان التقارب يحدث بقيادة السلطات العلمانية في روسيا في المقام الأول. وفي عام 1963، أرسل رئيس الدولة السوفييتية الملحد نيكيتا خروشوف زوج ابنته ومستشاره أليكسي أدجوبي إلى لقاء تاريخي مع البابا يوحنا الثالث عشر آنذاك.
ولكن الاختراق الحقيقي جاء في عام 1989، عندما التقى رئيس الدولة ميخائيل جورباتشوف بالبابا يوحنا بولس الثاني، وهو القس البولندي الذي أمضى العقد السابق في تأطير ولايته كجزء من المعارضة للحكم الإلحادي الشمولي السوفييتي. وبعد سقوط الاتحاد السوفييتي، اكتسبت العلاقة المزيد من الدفء، مع قيام بوريس يلتسين أول رئيس للاتحاد الروسي بزيارة الفاتيكان عام 1991 ثم عام 1998. ولكن الاعتراضات من قِبَل الكنيسة الأرثوذكسية الروسية منعت البابا من قبول الدعوات لزيارة موسكو.
ثم اكتسبت العلاقة بين روسيا والكرسي الرسولي أهمية جديدة بعد أن أصبح بوتن رئيسا. فعلى عكس المسؤولين السوفييت الملحدين، يعمل بوتن بشكل وثيق مع الكنيسة الأرثوذكية، مناصِراً القيم الاجتماعية المحافظة في الداخل وساعياً إلى توسيع النفوذ الروسي في الخارج.
وفي عام 2007، التأم شمل الكنيسة الأرثوذكسية الروسية مع الفرع المنشق، الكنيسة الأرثوذكسية الروسية خارج روسيا، والتي انشقت احتجاجاً على العلاقات الوثيقة مع البلاشفة. وخلال مراسم الاحتفال بهذه المناسبة قال بوتن: "إن إحياء وحدة الكنيسة شرط حاسم لإحياء وحدة العالَم الروسي المفقودة، والتي كانت العقيدة الأرثوذكسية تشكل دوماً إحدى ركائزها".
ويزود اللقاء الكوبي بوتن بالفرصة ليصبح الزعيم الروسي الذي أشرف على بدء الحوار بين الكنيستين الكاثوليكية والأرثوذكسية. وينعكس اهتمامه الشديد بهذا الحدث في كون احتمال وقوعه مستبعدا.
فقد أشرف بوتن وكيريل على تصعيد وتيرة العداء المناهض للغرب وتحويل الكنيسة الأرثوذكسية الروسية نحو المحافظة والنزعة القومية والتعصب. كما أطلق البطريرك (الذي يُشاع أنه خدم في الاستخبارات السوفييتية) وصف "الجهاد المقدس" على الحرب في سوريا، مضيفاً أن بلده اليوم ربما تكون القوة الأكثر نشاطاً في العالم التي تقاتل هناك. وعلى النقيض من ذلك، لم يكن فرانسيس تقدمياً بشكل واضح فحسب، حتى أنه يرفض الحديث بالسوء عن المثليين جنسيا، بل إنه يدعو مراراً وتكراراً إلى حلٍ سلمي في سوريا.
وفي السماح بانعقاد هذا الاجتماع ــ الذي لا شك أن بوتن يباركه ــ يسعى الرئيس الروسي إلى الحصول على المصداقية الدينية والشعبية السياسية. ويتيح له اللقاء أيضاً إزعاج الغرب، الذي يمقته بسبب العقوبات التي يفرضها على روسيا نتيجة للصراع في أوكرانيا وانتقاداته لتدخله في سوريا.
وكان اختيار كوباً مكاناً للاجتماع من الحسابات الذكية. ففي ضوء العقوبات المفروضة على روسيا، كانت أوروبا احتمالاً مستبعدا. بيد أن كوبا، حيث كان الاتحاد السوفييتي يقدم المساعدات المالية الأساسية في مقابل ولاء فيدل كاسترو ، تمثل تذكرة قوية بمطالبة روسيا بالمزيد من الثِقَل العالمي.
لم يندد قادة الجزيرة الكوبية قط بالمسيحية كما فعل السوفييت، وعلى مدى السنوات العشرين الماضية كانت الجزيرة موقعاً لثلاث زيارات بابوية: يوحنا بولس الثاني عام 1998، وبنديكتوس السادس عشر عام 2012، وفرانسيس عام 2015. وقد وجه راؤول كاسترو، شقيق فيدل وخليفته، الدعوة بالفعل إلى البطريرك لزيارة كوبا لكي يرى بنفسه مدى التوافق بين الشيوعية والمسيحية.
وفي نظر بوتن، ما كان الاجتماع ليأتي في وقت أفضل. فمع انخفاض أسعار النفط، والانحدار الهائل في قيمة الروبل، والعقوبات المستمرة، والصور المتزايدة الدموية القادمة من سوريا، يبحث بوتن يائساً عن أخبار إيجابية. وهل هناك صورة أفضل من نائب المسيح يقف جنباً إلى جنب مع حليفك الروحي والسياسي الوثيق؟
لا شك أن شفاء واحد من أقدم الانقسامات المسيحية يُعَد هدفاً نبيلا. ولكن عندما يلتقي فرانسيس ببطريرك بوتن، فمن الحكمة أن يتذكر القول الإنجليزي المأثور القديم: "من يجالس الشيطان على العشاء، فينبغي له أن يستخدم ملعقة طويلة".

أستاذة الشؤون الدولية، والعميد المساعد للشؤون الأكاديمية بجامعة نيو سكوول،