تحريك التنمية العالمية

مقالات رأي و تحليلات الأحد ٠١/أكتوبر/٢٠١٧ ٠٣:٥٧ ص

مايكل سبنس

قبل سنوات عِدة، كان لي شرف رئاسة لجنة معنية بالنمو في البلدان النامية. وكان أعضاؤها يتمتعون بخبرة كبيرة في الاقتصاد والسياسة ورسم السياسات الاجتماعية في العالَم النامي، وعلى الرغم من الاختلافات بينهم فقد اتفقوا جميعا على نقاط حاسمة بعينها. ولا تزال ذاكرتي تحتفظ بنقطتين.

فأولا، وكما خلصنا في تقريرنا النهائي، سوف يظل مصير أنماط النمو غير الشامل دوما الفشل في نهاية المطاف. فمثل هذه الأنماط غير قادرة على إنتاج النمو المرتفع المستدام الضروري للحد من الفقر وتحقيق التطلعات الإنسانية الأساسية في الصحة والأمن والفرصة للمساهمة بشكل منتج وخَلّاق في المجتمع. ولا تستفيد أنماط النمو هذه بشكل كامل من الموارد البشرية القيمة؛ وكثيرا ما تُفضي إلى اضطرابات سياسية أو اجتماعية تتسم غالبا بالاستقطاب الإيديولوجي أو العِرقي، والذي يؤدي بدوره إما إلى تقلبات سياسية واسعة النطاق أو شلل سياسي.

وكان استنتاجنا العام الثاني أن النمو المستدام يتطلب استراتيجية متماسكة قابلة للتكيف وتقوم على القيم والأهداف المشتركة، والثقة، ودرجة من الإجماع. وبطبيعة الحال، لن يكون تحقيق كل هذا بالمهمة السهلة.
شهدت دول نامية عديدة فترات ممتدة من النمو البطيء أو توقف النمو تماما. وفي بعض الحالات، يصيب الارتباك قادة البلد ببساطة، ويعجزون عن فهم ما يتوجب عليهم القيام به. ولكن في أغلب الحالات تكون مكونات «نموذج النمو» الفعّال معروفة جيدا، وتتلخص المشكلة في الافتقار إلى الإجماع السياسي أو الاجتماعي حول كيفية تنفيذها.
نادراً ما يكون تحقيق توازن أعلى للنمو انتقالا تدريجيا أو تراكميا. فهو يتطلب قفزة في التوقعات والسياسات، وتحولاً جوهرياً في الإجماع السياسي والاجتماعي. وعندما تحدث هذه التحولات، تلعب القيادة دورا حاسما، من خلال تزويد المواطنين برؤية بديلة تقوم على قيم مشتركة يمكن دعمها من قِبَل أصحاب المصلحة كافة. وقد تأتي هذه القيادة من أعلى، أو من أسفل، أو من مجموعة تمثيلية. ولكن كما يُظهِر استمرار توازن النمو المنخفض في العديد من البلدان، فإن مثل هذه القيادة غالبا لا تأتي على الإطلاق.
الواقع أن الآثار غير المباشرة المترتبة على النمو غير الشامل باتت جلية واضحة في كل مكان تقريبا، بدرجات متفاوتة، في هيئة استقطاب اجتماعي، وجمود سياسي وعدم ترابط، وفقدان شامل للثقة العامة. وفي هذا الصدد، تنطوي خبرات البلدان النامية على دروس مهمة محتملة لصانعي السياسات والعديد من أصحاب المصلحة في الاقتصادات المتقدمة.
لقد تحقق بعض التقدم في تحديد العوامل المسببة لتراجع الشمول الاقتصادي في العقود الثلاثة الأخيرة. وهو أمر مهم: فمن خلال فهم طبيعة التحدي فقط يُصبِح بوسعنا أن نطور استجابة أكثر فعالية لهذا التحدي. وإذا أسأنا تشخيص المشكلة بالاستعانة بتحليل معيب أو متعجل، فسوف تكون استجابتنا غير فعّالة، بل وربما تكون هَدّامة أيضا.
ومع ذلك فإن التحليلات التي أجريت حتى الآن لم تعمل بعد على توليد وعي واسع النطاق بالتهديد الذي يفرضه النمو غير الشامل على الإنتاجية والأداء الاقتصادي عندما يُقاس تقليديا. تنمو التأثيرات الاقتصادية السلبية المترتبة على النمو غير الشامل وتتكاثر ببطء بمرور الوقت، وسوف تستمر في النمو والتكاثر في غياب العمل الجماعي ــ والذي يتجلى عادة ولكن ليس بالضرورة من خلال الحكومة ــ اللازم لتحويل أنماط التوزيع السائدة.
قد لا يوافق بعض المراقبين على هذا الاقتراح، لأنهم يعتقدون أن العوامل الكامنة وراء الأداء الاقتصادي والدينامية تأتي مستقلة عن أنماط التوزيع. ولكن أود أن أذكرهم بالدرس الثاني من تجربة البلدان النامية: فأنماط النمو غير الشامل تقوض الثقة، ثم الحكم في نهاية المطاف، فتضعف بالتالي قدرة صناع السياسات على إدامة السياسات والاستراتيجيات التي تدعم النمو المرتفع.
بعبارة صريحة، التحليل الثاقب الإدراك له استخداماته، ولكن التغيير لن يحدث دون بناء تقارب اجتماعي وسياسي واسع النطاق حول قيم وأهداف مشتركة ــ وهو ما تفتقر إليه بشدة بلدان عديدة اليوم. يحتاج الناس إلى الثقة المتبادلة في ما بينهم وفي قادتهم، وهم يحتاجون إلى الاتفاق على كيفية تقييم الاتجاهات الاقتصادية والاجتماعية المستقطبة والاستجابة لها.
في الوقت نفسه، يعمل استمرار التقاعس عن التحرك على تغذية الاغتراب وخلق حلقة مفرغة من انعدام الثقة والشلل والتي يتعين كسرها قبل أن يتسنى اتخاذ أي تدابير فعّالة. وهناك بالفعل العديد من المبادرات المهمة المكرسة لأبعاد مختلفة من تحدي الشمولية، والتي لا تشمل التفاوت في الدخل والثروة فحسب، بل وأيضا التشغيل الآلي لعمليات التصنيع، والذكاء الاصطناعي، ومستقبل العمل. وعلى الرغم من نواياها الحسنة، يبقى لنا أن نرى ما إذا كانت أي من هذه المبادرات قادرة على تمهيد الطريق لاستجابات سياسية فعّالة.
ولا ينبغي لنا أن نستهين بقيمة التحليلات الثاقبة الإدراك لمثل هذه المشاكل المعقدة. ولكن لا يمكننا أن نفترض أن التوصل إلى التشخيص الصحيح قد يكون كافيا للتغلب على الجمود السياسي. يتلخص المكون الأساسي الثاني في المشاركة المباشرة. وتتطلب استعادة الثقة العامة التزاما عميقا متواصلا، وإجماعا جديدا وعريضا بالقدر الكافي للتغلب على الانقسامات السياسية والاجتماعية المنتشرة الآن في مختلف الاقتصادات المتقدمة.
من هذا المنظور، من المشجع للغاية في حقيقة الأمر أن نرى مثل هذا الانتشار للجان والمبادرات المبنية حول الشمول، والتي كانت لتبدو مفرطة وغير ضرورية في ظل ظروف أقل استقطابا. والجمع بين أصوات متباينة من عالَم الأعمال، والصناعة، والعمل، والحكومة، والأوساط الأكاديمية، والمجتمع المدني ــ على أن يكون هذا متكررا قدر الإمكان ــ هو المطلوب الآن على وجه التحديد.
قد يبدو جانب المشاركة في مهمة النمو الشامل غامضا بعض الشيء، وخاصة بعد التحليل الملموس. ولكنه شديد الأهمية رغم ذلك. فالجمع بين أشخاص لا اتفاق بينهم، بل وربما لا يثقون في بعضهم بعضا، هو الخطوة الأولى نحو بناء الأساس للعمل الجماعي في المستقبل.

حائز على جائزة نوبل في الاقتصاد وأستاذ الاقتصاد بكلية ستيرن لإدارة الأعمال بجامعة نيويورك