طريق ألمانيا الاقتصادي

مقالات رأي و تحليلات الأحد ٠١/أكتوبر/٢٠١٧ ٠٣:٥٦ ص
طريق ألمانيا الاقتصادي

كليمنس فويست

تنتظر الحكومة الألمانية المقبلة تحديات مرتبطة بالسياسة الاقتصادية في خمس مناطق رئيسية: التحويل الرقمي (الرقمنة) والتشغيل الآلي (الأتمتة)، والتغير الديموغرافي، وتغير المناخ، والتكامل الأوروبي.

في مجال التحويل الرقمي، تميل ألمانيا إلى التقلب بين الحماس المفرط لتوسيع شبكات الألياف البصرية والخوف من تأثير نماذج عمل جديدة غير منظمة إلى حد كبير، كتلك التي تقوم عليها أيقونات «اقتصاد المشاركة» مثل أوبر (Uber) واير بي إن بي (Airbnb).

ولكن لا ينبغي لصناع السياسات في ألمانيا أن يستجيبوا لمثل هذه المشاعر بردود فِعل آلية. إن تمديد شبكة ألياف بصرية على المستوى الوطني، بدلا من خدمة المواقع المحلية الأكثر احتياجا ببساطة، مشروع باهظ التكلفة وغير فعّال. وينبغي للساسة أن يركزوا جهودهم التنظيمية على ضمان عدم عرقلة نماذج العمل الرقمية المعقولة والاستثمار الخاص في هذا المجال.
مع التحويل الرقمي يأتي أيضا التشغيل الآلي والروبوتات، وهو ما يخشى كثيرون أن يؤدي إلى خسارة الوظائف. ونتيجة لهذا، يتعرض المرء الآن بشكل منتظم لمقترحات حول دخل أساسي شامل غير مشروط، والذي ربما يمكن تمويله من خلال فرض ضريبة على الروبوتات.
لكن مثل هذه الاستجابة تُعَد خطأً رهيبا ــ فهي استسلام للتحديات التي نواجهها. وبدلا من جعل شريحة كبيرة من السكان تعتمد على تحويلات مالية مكتسبة من قِبَل آخرين، ينبغي لقادة ألمانيا أن يعملوا على ضمان حصول كل العمال على التدريب اللازم لملاحقة الفرص في سوق العمل في المستقبل.
في الوقت نفسه، تعمل الشيخوخة السكانية وانحدار القوة العاملة في ألمانيا على خلق نقص في اليد العاملة في السنوات المقبلة. ولكن بدلا من اغتنام الفرصة السانحة، كان صناع السياسات الألمان مشغولين بالقلق بشأن زوال العمالة الماهرة بالكامل. بيد أن هذه المخاوف تجافي المنطق. ففي العام 1990، كان نحو 38 % من قوة العمل في ألمانيا يعملون في الزراعة؛ وفي العام 2000 انخفضت النسبة إلى 2 % فقط. ومع هذا فإن التشغيل الآلي في مجال الزراعة على نطاق كامل لم يؤد إلى بطالة جماعية.
وسوف يخلف التحول الديموغرافي في ألمانيا عواقب مهمة على الموارد المالية العامة، وخاصة نظام الضمان الاجتماعي. ولكن في الحملة الانتخابية الفيدرالية الأخيرة، استبعد كل من الحزبين السياسيين الرئيسيين في ألمانيا مقترحات رفع سن التقاعد إلى 70 عاماً، حتى برغم الأسباب الوجيهة التي تدعو إلى القيام بذلك على وجه التحديد.
كثيرا ما يُنَدَّد باقتراح رفع سن التقاعد لدعم نظام معاشات التقاعد القانوني باعتباره غير عادل، لأن الناس الذين يزاولون أعمالا تتطلب جهدا جسديا، مثل الممرضين والعمال اليدويين، من غير الممكن أن نتوقع منهم أن يعملوا إلى سن السبعين. ولكن هذه مشكلة ينبغي معالجتها من خلال زيادة الأجور والتأمين ضد العجز، وليس بتأمين معاش التقاعد. ومن الممكن فضلا عن ذلك جعل التقاعد المبكر اختياريا، ما دام يجري خفض سنه وفقا لذلك.
وتفرض العولمة ــ سواء اتخذت شكل الهجرة أو تدفقات التجارة ورؤوس الأموال والبيانات ــ تحديا كبيرا بنفس القدر، حتى برغم أنها كانت نِعمة لألمانيا في العقود الأخيرة. وفي عموم الأمر، تعني العولمة ضمنا مجالا أضيق للسياسة الوطنية. ويصدق هذا بشكل خاص على حالة ألمانيا، لأنها وقعت على اتفاقيات دولية رعاها الاتحاد الأوروبي ككل.
وقد تسبب التنقل المتزايد عبر الحدود في إخضاع ألمانيا لضغوط تنافسية شديدة. فألمانيا راغبة في اجتذاب الشركات والاستثمار، ولكنها تريد أيضا إيجاد أكبر عدد ممكن من الوظائف العالية الأجر. وتستفيد ألمانيا بالتالي من المهاجرين الذي يحملون مؤهلات أعلى من المتوسط، لأنهم قادرون على كسب القدر الكافي من المال لسداد ضرائب تتجاوز قيمتها ما يحصلون عليه من استحقاقات من الدولة. ولكي يتسنى لألمانيا اجتذاب رؤوس الأموال والمهاجرين من ذوي المهارات العالية، فإنها تحتاج إلى الإبقاء على الضرائب منخفضة. ولكن هذا يحد من قدرتها على استخدام الضرائب كآلية لإعادة التوزيع.
في الوقت الحالي، لا تزال ألمانيا قادرة على تمويل دولة الرفاهة الاجتماعية. ولكن في ظل هذا الاقتصاد الخاضع للعولمة، لا يمكنها الاعتماد على إعانات الدعم الممولة بالإيرادات الضريبية العامة للتعويض عن النقص في المستقبل في نظام الضمان الاجتماعي. بعبارة أكثر تركيزا، لا تستطيع ألمانيا أن تبقي على الضرائب منخفضة إلى أجل غير مسمى في حين تقدم تحويلات اجتماعية سخية للعمال الأقل مهارة؛ ففي نهاية المطاف سوف ينهار نظام الضمان الاجتماعي في ألمانيا. وينبغي للحكومة أن تعمل مع دول أخرى وداخل حدود الاتحاد الأوروبي لضمان عدم تحفيز الهجرة بفِعل الرغبة في الحصول على مزايا الرفاهة الاجتماعية.
لكي تظل ألمانيا قادرة على المنافسة فإنها تحتاج إلى تغيير كيفية فرض الضرائب على الاستثمار والإبداع. وقد أعلنت حكومة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عن خطط لإلغاء ضريبة الثروة الفرنسية وتخفيض معدل الضريبة على الشركات بشكل كبير. كما أعلنت حكومات السويد والمملكة المتحدة والولايات المتحدة عن خطط لخفض الضرائب.
لا تستطيع الحكومة الألمانية، شاءت ذلك أو أبت، أن تفلت من آثار المنافسة الضريبية العالمية. ولكن في حين تبحث عن طرق لتحسين النظام الضريبي، يتعين عليها أن لا تسمح لقطاعات بعينها ــ وخاصة تلك التي تتبع نماذج عمل رقمية إلى حد كبير ــ بالتهرب من الضرائب بالكامل.
يمثل تغير المناخ جانبا آخر من جوانب العولمة، فهنا أيضا لا تستطيع ألمانيا أن تفعل أي شيء بمفردها لوقف الانحباس الحراري العالمي. بل يتعين على الحكومة أن تعمل مع شركائها الأوروبيين لصياغة اتفاقيات مناخية عالمية، في حين تتخذ التدابير اللازمة لتخفيف التأثيرات المترتبة على تغير المناخ في الداخل. ولكن فيما تواصل ألمانيا خفض انبعاثاتها الغازية، ينبغي لها أن تراقب فعالية التكلفة، لأن أي أجندة مناخية من غير الممكن أن تلاقي النجاح من دون قبول اجتماعي.
ومن هذا المنظور، تُصبِح التدخلات الانتقائية، مثل الحظر المقترح على محركات الاحتراق الداخلي بعد العام 2030، هَدَّامة. ويتلخص نهج أفضل كثيرا في إدراج حركة المرور على الطرق في نظام قياس الانبعاثات بموجب اتفاق باريس للمناخ، لأن هذا من شأنه أن يسمح بخفض الانبعاثات بأقل تكلفة ممكنة.
يتمثل التحدي الرئيسي الأخير في مواجهة الحكومة الألمانية المقبلة في سياستها في التعامل مع أوروبا. ذلك أن ألمانيا تحتاج إلى الاتحاد الأوروبي للتغلب على أزمتها الحالية، وتعميق سوقها الداخلية، ووضع سياسة دفاعية وأمنية مشتركة، حتى يتسنى لها أن تجني ثمار التكامل الأوروبي. ومن شأن عمليات شراء الأسلحة المشتركة والتعاون العملياتي الأوثق أن تحقق مكاسب أكبر من حيث الكفاءة، وتخفيف العبء المفروض على ميزانيات الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي.
بالإضافة إلى ذلك، يحتاج الاتحاد النقدي الأوروبي بشدة إلى الإصلاح. وبدلا من انتظار اندلاع الأزمة التالية، ينبغي لألمانيا أن تحرص على حمل البنوك الأوروبية على الاحتفاظ بكميات أقل من السندات الحكومية الداخلية. وفي الحالات حيث تتكبد الدول الأعضاء فرادى قدرا كبير من الديون، ينبغي للدائنين من القطاع الخاص ــ وليس دافعي الضرائب من دول أخرى ــ تحمل عبء إعادة هيكلة الديون.

كليمنس فويست رئيس معهد آيفو للبحوث الاقتصادية،
وأستاذ الاقتصاد في جامعة ميونيخ