محمد العارضي
لطالما قيل إن السياسة تعبير مكثف عن الاقتصاد، أي أن الاقتصاد يسبق السياسة دوماً، يقودها ويوجهها نحو تحقيق مصالح الجماهير، ما يعني أن السياسة أداة من أدوات التنمية الحديثة، تعاظمت أهميتها في زمن العولمة وانفتاح الأسواق وتلاشي الجغرافيا أمام البضائع والعملات، ما أدى إلى ظهور تكتلات سياسية دولية على قاعدة الروابط والمصالح الاقتصادية المشتركة، مثل مجموعة البريكس ومنظمة شنجهاي والاتحاد الأوروبي.
ولم يحدث أن قرأنا في كتب التاريخ أن السياسة انفصلت عن الاقتصاد إلا في سِيَر البائدين، الذين أصروا على فصل المصالح العليا لشعوبهم عن سياساتهم الداخلية والخارجية.
والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا الزمن: أين هي التكتلات والأحلاف الاقتصادية التنموية العربية، ما الذي يحول دون تشكلها رغم الحاجة الماسة إليها هذه الحاجة التي تفرضها ضرورات البقاء وحماية الثقافة والتراث والمشروع الاجتماعي العربي. لا مشروع تنموياً بدون مشروع اجتماعي، ولا نجاح للتنمية العربية إلا بالتحامها بالثقافة والهوية العربية، مع مراعاة الانفتاح على الثقافات الأخرى واستمرار التبادل الإنساني والمادي بين البشر، لكن على قاعدة التكافؤ والمساواة.
بالعودة للسياسة، وفي تعريف بسيط آخر لها، هي الاستجابة الفعالة من قبل مراكز صنع القرار للمتغيرات والمستجدات التي ترافق كل مرحلة من التاريخ. هذه المرحلة ملأى بالمتغيرات والمستجدات، من الأزمات المتتالية على الوطن العربي التي تركت آثارها العميقة على التنمية والمشروع الاجتماعي، إلى تداعيات الأزمة المالية واستمرار التوقعات بمستقبل يسوده الركود وتراجع النمو، إلى المتغيرات في العلاقات الإقليمية وأبرزها الاتفاق النووي الإيراني الذي أضاف للأسواق اقتصاداً ضخماً بقيمة 400 بليون دولار.
إذا فككنا هذه المستجدات، سنجد جذورها عميقة في تاريخ المنطقة، فما من حدث ينشأ في الفراغ، والتحولات لا تحصل فجأة، فالأزمات والصراعات تعود أسبابها لعوامل مرتبطة بالتنمية. إن ضعف الأداء الاقتصادي العربي، وغياب التنمية الاجتماعية، وهشاشة المشروع الاجتماعي، وضعت الثقافة العربية في مهب الريح وعرضة للاختراقات من كل حدب وصوب. والعامل الأكبر الذي فجر هذه الصراعات هو غياب مشروع عربي تنموي مشترك يمنح الطمأنينة للجمهور ويفتح لهم آفاقاً مستقبلية واسعة للعمل والرخاء والأمن المالي.
لقد تشكلت هذه العوامل ونمت في تربة مواتية من الانفصام ما بين السياسة والتنمية وما بين الخطاب التنموي والواقع الذي يحتاج للفعل أكثر من حاجته للخطاب. ولمواجهة هذه العوامل كونها أسباب تباطؤ مسيرة التنمية نحتاج للعمل على محورين:
المحور الأول: إحياء المشروع الاجتماعي العربي، وتحصينه بالإرث الثقافي والمعرفي بوصفه مكونات الهوية الوطنية والانتماء. فالتنمية ثقافة انتماء قبل أن تكون حصيلة معرفية لجملة من الإجراءات الاقتصادية، والتنمية رفعة الأوطان وحصانتها وقوتها، وهي التي ستحدد المكانة لكل دولة على الخارطة السياسية والاقتصادية العالمية.
ولكي تتحقق التنمية لا بد من التحام هذه الثقافة الوطنية بالمعارف والعلوم والتكنولوجيا. هكذا سنحصل على رأس مال بشري قوي وفعال، فالإنسان المؤهل بالعلوم وحدها سيكون موظفاً جيداً، لكن الإنسان الذي يجمع بين العلوم والمعرفة والثقافة الوطنية، سيكون مواطناً جيداً بكل ما تعنيه كلمة المواطنة من معانٍ وفي مقدمتها الشراكة في مسيرة تنمية الوطن.
المحور الثاني: العمل على تذليل العقبات التي تقف في وجه مشروع التنمية العربية المشترك، سواء كانت عقبات سياسية أو تاريخية أو من أي نوع آخر. لم يعد للمنظومات الاقتصادية المنفردة أي مكانة تذكر على الخريطة العالمية في زمن التكتلات. لو لم تحدث الأزمة المالية عام 2008 لسادت هذه التكتلات ساحة الاقتصاد العالمي وسيطرت عليها. جميعنا نذكر معدلات النمو الكبيرة التي شهدتها اقتصادات آسيا وأوروبا وأميركا الجنوبية. العامل الأساسي لهذا النمو كان التكامل في المنظومة الاقتصادية التي نتجت عن الأحلاف، بحيث وسعت حجم الاقتصاد وسوق العمل، وزادت معدلات التداول فيما بينها، والأهم من ذلك، أنها منحتها حصانة سياسية من أي تدخلات أو إملاءات دولية محتملة.
إن البدء بحوار عربي -عربي اقتصادي سياسي ثقافي، محوره الخروج من مأزق المرحلة والتأسيس لعلاقات عربية ترتقي لمستوى التكتلات الاقتصادية العالمية، ويستند للجذور التاريخية المشتركة والمصير المشترك، هذا هو المنطق الوحيد الذي يمكننا من خلاله تجاوز المرحلة، وهذا المنطق شئنا أم أبينا سيفرض نفسه في النهاية لأنه شرط موضوعي وتاريخي لإنجاز الخطوة المقبلة من مسيرة تطور التنمية العربية.
البدء بحوار عربي إقليمي، يأخذ بالاعتبار المتغيرات في الأسواق الدولية، وفي مقدمتها الهبوط القياسي لأسعار النفط، ما يستدعي التفكير بطريقة مختلفة لبناء اقتصاد مختلف يقوم على التنسيق والتعاون والتبادل العربي والإقليمي للاستثمارات وإنتاج السلع والخدمات. ولكي نكون أكثر واقعية، لا بد من القول أن المستقبل لن يكون كما نتمناه بل سيأتي حصيلة لقراراتنا وخطواتنا المرحلية. المستقبل يُصنع الآن، وفي هذه اللحظة تتشكل عوامله وسماته، فأي دور لنا في ترتيب هذه العوامل؟
قد تفتقر هذه الدعوات لبرنامج عمل، وقد تفتقر للشرح والتوضيح اللازمين لهكذا مشروع، لكنها لا تفتقر للثقة بأن هذا اليوم قادم لا محالة. ولا تفتقر للإيمان بأن الحاجة ستفرض نفسها على الرغبة، وأن الضرورات ستهزم العادات في نهاية الأمر.