السر المفقود للتضخم

مقالات رأي و تحليلات الأربعاء ٢٠/سبتمبر/٢٠١٧ ٠٤:٣٢ ص
السر المفقود للتضخم

نورييل روبيني

منذ صيف العام 2016، شهد الاقتصاد العالمي فترة من التوسع المعتدل، مع تسارع معدل النمو تدريجيًا. أما الذي لم يرتفع، على الأقل في الاقتصادات المتقدمة، فهو التضخم. والسؤال هو لماذا.

في الولايات المتحدة، وأوروبا، واليابان، وغيرها من الاقتصادات المتقدمة، كان تسارع النمو مؤخرًا مدفوعًا بزيادة في الطلب الكلي، نتيجة لسياسات نقدية ومالية توسعية مستمرة، فضلًا عن ارتفاع ثقة الأعمال والمستهلكين. وكانت الثقة مدفوعة بتراجع مستويات المخاطر المالية والاقتصادية، إلى جانب احتواء المخاطر الجيوسياسية، التي لم تخلف نتيجة لهذا سوى تأثير ضئيل على الاقتصادات والأسواق حتى الآن.

ولأن زيادة الطلب تعني تراجع الفتور والتراخي في أسواق المنتجات والعمل، كان من المتوقع أن يؤدي تسارع النمو الذي شهدته الاقتصادات المتقدمة مؤخرًا إلى ارتفاع معدلات التضخم. ومع ذلك، انخفض معدل التضخم الأساسي في الولايات المتحدة هذا العام ويظل منخفضًا بعناد في أوروبا واليابان. ويوجد هذا معضلة للبنوك المركزية الرئيسية ــ بدءًا بمجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي والبنك المركزي الأوروبي ــ التي تحاول التخلص تدريجيًا من السياسات النقدية غير التقليدية: فقد نجحت في تأمين النمو الأعلى، ولكنها تظل عاجزة عن بلوغ هدفها المتمثل في معدل تضخم سنوي قدره 2 %.
من التفسيرات المحتملة لهذه التركيبة الغامضة من النمو الأقوى والتضخم المنخفض أن الاقتصادات المتقدمة كانت تشهد صدمات إيجابية على جانب العرض بالإضافة إلى الطلب الكلي الأقوى.
تشير النظرية الاقتصادية القياسية إلى أن استجابة السياسة النقدية الصحيحة لمثل هذه الصدمات الإيجابية على جانب العرض تعتمد على استمرارها. فإذا كانت الصدمة مؤقتة، لا ينبغي للبنوك المركزية أن تتفاعل معها؛ بل ينبغي لها أن تعمل على تطبيع السياسة النقدية، لأن الصدمة ستزول في نهاية المطاف بشكل طبيعي، ومع إحكام قيود أسواق المنتجات والعمل، سوف يرتفع التضخم. أما إذا كانت الصدمة دائمة، فينبغي للبنوك المركزية أن تعمل على تخفيف الظروف النقدية؛ وإلا فإنها لن تتمكن أبدا من الوصول إلى هدف التضخم.
وهذه ليست أخبارًا جديدة بالنسبة للبنوك المركزية. فقد برر مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي قراره بالبدء في تطبيع أسعار الفائدة، على الرغم من انخفاض التضخم الأساسي عن المستوى المستهدف، بحجة أن صدمات جانب العرض التي تضعف التضخم مؤقتة. وعلى نحو مماثل، يستعد البنك المركزي الأوروبي لخفض مشترياته من السندات تدريجيا في العام 2018، على افتراض أن التضخم سيرتفع في الوقت المناسب.
وإذا كان صناع السياسات مخطئين في افتراضهم أن الصدمات الإيجابية على جانب العرض التي تتسبب في انخفاض التضخم مؤقتة، فربما يكون تطبيع السياسة النهج الخاطئ في التعامل مع الأمر، وربما يجب أن تستمر السياسات غير التقليدية لفترة أطول.
وهذا هو الرأي الذي أخذ به بنك التسويات الدولية، الذي يزعم أن الوقت حان لخفض هدف التضخم من 2 % إلى صِفر ــ وهو المعدل الذي يمكن توقعه الآن، نظرا لصدمات العرض الدائمة. ويحذر بنك التسويات الدولية أن محاولة تحقيق مستوى التضخم بنسبة 2 % في سياق مثل هذه الصدمات من شأنه أن يؤدي إلى سياسات نقدية شديدة التساهل، وهذا بدوره يفرض ضغوطا تدفع أسعار أصول المخاطر إلى الارتفاع، ثم يؤدي في نهاية المطاف إلى تضخيم فقاعات خطرة. ووفقا لهذا المنطق، ينبغي للبنوك المركزية أن تعمل على التعجيل بتطبيع السياسة، وبوتيرة أسرع، لمنع اندلاع أزمة مالية أخرى.
بطبيعة الحال، تأمل البنوك المركزية في الدول المتقدمة أن لا يحدث تضخم الأصول على هذا النحو على الإطلاق، لأن التضخم تعوقه صدمات العرض المؤقتة، وبالتالي فسوف يزداد بمجرد إحكام أسواق المنتجات والعمل. ولكن في مواجهة احتمال أن يكون التضخم المنخفض اليوم ناجما عن صدمات العرض الدائمة، فإنها أيضا غير راغبة في المزيد من التخفيض الآن.
الواقع أن صبر البنوك المركزية لا يخلو من المجازفة بدفع توقعات التضخم إلى الانخفاض. ولكن الاستمرار لفترة أطول مع السياسات النقدية غير التقليدية ينطوي أيضا على مخاطر غير مرغوبة، مثل تضخم أسعار الأصول، ونمو الائتمان المفرط، ونشوء الفقاعات. وما دامت حالة عدم اليقين بشأن أسباب انخفاض التضخم باقية، فسوف تضطر البنوك المركزية إلى الموازنة بين هذه المخاطر المتنافسة.

الرئيس التنفيذي لمؤسسة روبيني ماكرو أسوشيتس

نورييل روبيني