منارة العواصم العربية

مقالات رأي و تحليلات الأحد ١٠/سبتمبر/٢٠١٧ ٠٤:١٠ ص
منارة العواصم العربية

أحمد المرشد

عندما كتبت الجزء الأول عن سيدة الغناء العربي لم أكن أدري كم هذه الرسائل التي تلقيتها رغم أنني كتبت كثيرًا عنها، فأنا من عشاق صوتها وفنها، هذا الفن الذي يشمل الإلقاء والكلمة واللحن، فكل عنصر كفيل بأن يصنع فنانا في حد ذاته، مما يجعل من أم كلثوم أكثر من مطربة أحبها العرب، فهي الإنسانة المحبة لوطنها، المثقفة، المعطاءة، التي لم تبخل بثروتها لمصر بعد نكسة 1967، فكانت مثالًا للمرأة الوطنية التي لم تنجبها مصر حتى الآن.

تحدثت في المرة الفائتة عن روائع وسيمفونيات أم كلثوم وكيف تعلمنا منها دروسا في الحب، من كثرة أغانيها عن الحب العذري، فكنا نكتب كلماتها ونحفظها عن ظهر قلب، ويا ليتنا حفظنا دروسنا كما حفظنا أغانيها، سيدة تركت لنا معينا لن ينضف من العاطفة والحنان والشجن والحزن والحب.

ومن الحديث عن جماليات صوت أم كلثوم، وكيف أبدعت مع المؤلفين والملحنين الذين تعاونت معهم، إلى حديث الآخرين عنها، فهي كانت تبهر كل ما يلتقي بها، علي كل المستويات، ملوكا، رؤساء، عمالقة موسيقي عالميين.
نعود لكتاب مهم كتب عن سيدة الغناء العربي وقد وضعها في مصاف «معجزة الشرق، بعنوان «أم كلثوم - كوكب الشرق» مع مقدمتين، الأولى كتبها الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك، في واقعة نادرة منه، ولم لا؟ فهي عن أم كلثوم وليس شخصا آخر. استلهم مبارك مقدمته من الواقع الذي عايشه مع أم كلثوم فكتب يقول: «لن يخفت صوت أم كلثوم أبدًا»، ليربط بذلك أرقام مبيعات تسجيلاتها وعدد ساعات تقديم أغانيها في الإذاعة المسموعة والمرئية لم تتوقف عند حد، بل ظلت تتصاعد وتتفوق على غيرها. ولم يضن مبارك علي أم كلثوم، إذ وصفها بـ»الفنانة العظيمة التي تجاوزت دورها كمطربة لتكون سفيرة للفن ولمصر، وهي الإنسانة التي ما زالت هامتها المهيبة ترتفع في العالم العربي كله، بل في عالم الثقافة، فذكراها باقية في كل مكان».
أما المقدمة الثانية فقد كتبها الفنان الراحل عمر الشريف، لتخرج منه الكلمات مبدعة في وصف قيمة أم كلثوم العظيمة:» تعود أم كلثوم مع طلعة كل شمس الى الحياة من جديد في قلوب مائة وعشرين مليون إنسان»، ثم يستكمل وصفه الرقيق:»وبدون صوتها تبهت الأيام فى الشرق وتشحب ألوانها.. إن مكانها مازال شاغرا، وهامتها لم يطالها أحد حتى يومنا هذا».
تجسد مؤلفة الكتاب إيزابيل بوديس عن «معجزة الشرق»، كيف استقبلها جمهورها وهي تغني على مسرح الأولمبيا أكبر مسارح عاصمة النور باريس، فقال لها مدير المسرح وهو يستقبلها في المطار مع جماهير حاشدة من العرب والفرنسيين: «فرنسا تنتظرك بفارغ الصبر، والإذاعات جميعها ضبطت موجاتها لإذاعة الحفل، لقد سلبت عقول المستمعين، وهم يطلبون أغنية الأطلال، والطائرات تصل إلى مطار باريس حاملة كبار القوم من الدول العربية.. غناؤك هنا يا سيدتي حدث تاريخي». ورغم أن أم كلثوم لم تدخل المدارس وقتها، إلا أن رسالتها للرئيس الفرنسي شارل ديجول تبين لنا مدي ثقافتها القديرة، فكتبت له بلغة فرنسية راقية تعلمتها من شاعرها المفضل أحمد رامي،:» سيادة الرئيس..أحيي سعيكم الدؤوب لنشر العدالة والسلام».
وكان يوم حفلتها علي مسرح أولمبيا يوما مشهودا لم ولن ينساه العرب والفرنسيون، فقد رجت المسرح وهي تغني قصيدة الأطلال من نظم الشاعر إبراهيم ناجي وتلحين رياض السنباطي، خاصة وهي تكرر مقطع «أعطني حريتي أطلق يديا» حتى التهبت الأكف من التصفيق، وتتراكم باقات الأزهار على المسرح، في لحظة تاريخية لم تكن لتمر سوي بين أم كلثوم وجمهورها.
المفاجأة أنه ليس العرب وحدهم الذين احتفلوا بأم كلثوم في باريس واستمعوا لرائعتها «الأطلال»، ولكن هل تدرون أن الرئيس الفرنسي شارل ديجول استمع هو الأخر لمعجزة الشرق من خلال الحفلات المذاعة، ولم تترك أم كلثوم باريس إلا وكانت مستلمة برقية إعجاب من الرئيس الفرنسي يصف صوتها بقوله:»أحسست في صوتك ارتعاشة قلبك وقلوب كل الفرنسيين».
وقد وصفت مجلة «لايف» الأمريكية المعنية بشؤون الفنانين والفن والنجوم، منطقة الشرق الأوسط ليلة الخميس الأول من كل شهر حينما اعتادت أن تغني أم كلثوم لجمهورها في هذا الموعد المحدد، حيث تخلو الشوارع في القاهرة المركز وكل ما حولها من عواصم عربية، لماذا تخلو الشوارع العربية؟.. لأن كل العرب عادوا إلى منازلهم مبكرا لينصتوا إلى إذاعة مصر يستمعون إلى أم كلثوم.
وثمة جملة رائعة ذكرتها مجلة «لايف» عندما ذكرت في وصف أم كلثوم:» هناك شيئان ثابتان لا يتزحزحان في الشرق الأوسط (أم كلثوم والإهرامات)».
وعندما تحدث موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب عن رأيه في صوت أم كلثوم ووصفه بأنه عبارة عن مجموعة أصوات نادرة في الكون، لم يبالغ في كلامه، لأن الموسيقي الأمريكي بوب ديلان الفائز بجائزة نوبل للآداب كشف أمرًا مهمًا، فهو من أشد المعجبين بكوكب الشرق أم كلثوم، ولا يسأل عن رأيه في الأغنية العربية إلا وتكون إجابته واحدة وهي أم كلثوم. تعرف بوب ديلان على صوت سيدة الغناء العربي أثناء زيارته للقدس 1978، عندما استمع وهو يسير في البلدة القديمة لغنائها وحينما سأل: «من هذه التي تغني بهذا الصوت الجميل؟». جاوبه مرافقوه بأنها كوكب الشرق أم كلثوم، ورأى فيها أفضل من يغني في الشرق الأوسط، وتعرف على قصتها منذ أن كانت تنشد الابتهالات الدينية مع والدها في بلدتها بمدينة المنصورة، فهي «فنانة عظيمة.. حقاً عظيمة».
المثير أن بوب ديلان سمع عن أم كلثوم أول مرة العام 1969 عندما التقى المطربة اليونانية ذائعة الصيت نانا مساكوري أثناء رحلتها لنيويورك لتسجيل ألبوم « أغنيات بنت من اليونان» بعد حفلة لها في المدينة الأمريكية وسألتها: «من هو مطربك المفضل؟» لم تنتظر حتى انتهاء سؤاله فردت على الفور: «أم كلثوم». وهنا كانت أول مرة يسمع بوب ديلان عن أم كلثوم، ومن هي؟ من أشهر مطربة في العالم آنذاك، وبحسب «ويكيبيديا» أكثر مطربة مبيعا لأسطواناتها في التاريخ بــ4.4 بليون نسخة علي 5 عقود. ولم تنقطع علاقة بوب ديلان بأم كلثوم منذاك الوقت، ونشر مؤخرًا تسجيلًا صوتيًا وصف فيه حبه الكبير لسيدة الغناء العربي والأثر العميق الذي تركته الراحلة في نفوس الجماهير التي شيعتها وطافت بها شوارع القاهرة لمدة 3 ساعات، ورغم مضي سنوات طويلة على رحيلها إلا أنها ما زالت الأكثر حضورًا وتميزًا، على حد وصفه.
حكايات أم كلثوم كثيرة وتملأ مجلدات ومنها لقائها الأول مع الشاعر السعودي الكبير الأمير عبدالله الفيصل، فقد غنت له قصيدة «ثورة الشك» بحديقة الأزبكية بالقاهرة في الرابع من ديسمبر 1958، وتعد من أروع ما غنته من قصائد درامية متكاملة العناصر الفنية حيث صورت الكلمات الجحيم والنعيم في الشك، وتقول فيها: «وتعد «ثورة الشك» نقطة تحول مهمة في مسيرة أم كلثوم مع القصائد، وكانت المرة الأولى التي تغني فيها لشاعر عربي غني له بعدها أشهر المطربين العرب. واعترفت أم كلثوم باعتزازها الكبير بعبد الله الفيصل، خاصة وأنهما اتفقا علي تغيير عنوان القصيدة «من وحي الحرمان» إلى «ثورة الشك» فيما تم الإعداد لها أكثر من عامين، لتغني له في وقت لاحق – العام 1971 أغنية «من أجل عينيك عشقت الهوي».
وفي رائعتها «رباعيات الخيام» التي ترجمها عن الفارسية أحمد رامي، بلغت أم كلثوم قمة الإمتاع، خاصة في ترديدها بعض المقاطع التي انتفض الجمهور وهو يسمعها، حتي أن بدايتها لم تقل روعة عن نهايتها، وكانت مثل «ثورة الشك» عبارة عن قصة شعرية تحمل دراما حب وحنان، وننقل عنها بتصرف:
اتسم أداء أم كلثوم بالتنوع والتحول، فكانت تغني الشعر والقصائد، ومن الكلمات الصعبة لـ»رباعيات الخيام» تنتقل إلى السهل الممتنع في «ألف ليلة وليلة» لمرسي جميل عزيز، هذا الشاعر الذي نجحت كل أغانيه، وكان من أغزر الشعراء عطاء لجميع مطربي عصره، واكتشفته أم كلثوم لتبدع معه في «ألف ليلة وليلة»، ومن السهل المقارنة بين صعوبة «ثورة الشك» و»رباعيات الخيام» وبين اللغة السهلة في «ألف ليلة وليلة» التي تركز علي الحب في ليلة واحدة، ليلة من أحب لياليها، حتي أنها تخشي شروق الشمس لكيلا تذهب العواطف الجياشة:

ونختم بوصف الدكتور طه حسين لصوتها: صوت نادر في امتيازه وجماله وسلامة نطق اللغة العربية، أثبتت جمال اللغة وطواعية موسيقاها، عندما غنت القصائد، وكان لصوت أم كلثوم الفضل في انتشار الشعر العربي على ألسنة العامة والخاصة». ومن طه حسين إلى رسالتي الخاصة إلى كل العشاق والمحبين، العودة إلى أم كلثوم، واكتفي هنا بـ «أمل حياتي» و»أنت الحب».

كاتب ومحلل سياسي بحريني