الاستثمار في الأصول المعرفية مدخل لتوطين وإنتاج التكنولوجيا

مقالات رأي و تحليلات الأربعاء ٣٠/أغسطس/٢٠١٧ ٠٤:٢٩ ص
الاستثمار في الأصول المعرفية مدخل لتوطين وإنتاج التكنولوجيا

محمد محفوظ سعد العارضي

في مقالتي السابقة ناقشت أحد العوامل التي قد تؤدي، بتضافرها مع عوامل أخرى، إلى إمكانية قيام حاضنة للتكنولوجيا في الوطن العربي على غرار سيليكون فالي في الولايات المتحدة الأمريكية، وقلت: «إن العدد الهائل من الشركات العالمية التي تعمل في مجال التكنولوجيا والتي لها وجود في البلدان العربية وبشكل خاص منطقة الخليج العربي، قد يمهّد الطريق أمام قيام مثل هذه الحاضنة». لقد ألهمتني ردود الأخوات والأخوة للتوسع في نقاش هذه القضية لأهميتها في بناء اقتصاد عربي معاصر متنوع وقادر على المنافسة في الأسواق العالمية.

لا بد من التأكيد في البداية على أن كافة الاختراعات والاكتشافات التي شهدتها البشرية، هي نتاج إنساني بالأساس وملك للإنسانية جمعاء وليست حكرًا على حدود جغرافية معينة. ربما لا يذكر هذا الجيل من اكتشف الزراعة ومن اكتشف المحاصيل التي تشكل اليوم أساس النظام الغذائي، ولكن على الرغم من تفاوت التقنيات المتبعة أو التفاوت بين دولة وأخرى في طاقة الإنتاج وحصة السوق، إلا أن الزراعة تعد إرثًا بشريًا كاملًا، انتشر في كافة بقاع الأرض ولا يوجد قوة قادرة على منع دولة ما أو شعب ما من الاستفادة منه.

الأمر ذاته ينطبق على اختراع الآلة البخارية ومن ثم المحركات التي تعمل بالوقود، والتي أصبحت اليوم أصلاً للعديد من الصناعات التي تمتلك الكثير من الدول حقوقها وبراءة اختراعها. ولو عدنا قليلاً إلى التاريخ، لوجدنا أن نظريات الحسن بن الهيثم في علم البصريات، أو نظريات ابن خلدون في علم الاجتماع، أو اكتشاف ابن النفيس للدورة الدموية، أو نظريات الهندسة والجبر العربية، قد ساهمت إلى حد كبير في تشكيل الصورة الحالية للعلوم الحديثة ولم تعد حكراً على العرب بل تعولمت كغيرها من الإبداعات.
إن الهدف من هذه المقدمة هو الرد على فكرة أن الاختراعات والتقنيات الحديثة اليوم ليس للعرب نصيب فيها، وبالتالي فإن الفرص أمامهم للحاق بركب التكنولوجيا محدودة وقد تكون معدومة. هذا الاعتقاد خاطئ ولا نتيجة له غير تعميم الإحباط، وبناء حواجز مزيفة بيننا وبين الإنتاج البشري سواء المادي أو المعرفي. وللخروج من دائرة اليأس هذه، يجب أن نضع كافة العلوم والاكتشافات والاختراعات في سياق الجهد البشري المشترك، وفي هذه الحالة فقط قد يكون أمامنا فرصة لهضم واستيعاب ما أنتجته البشرية للبناء عليه وتقديم إضافاتنا الخاصة ليبقى السؤال الأهم هو: من أين وكيف نبدأ مسيرتنا العلمية؟
على أهمية الاستثمار الأجنبي المباشر وعلى أهمية وجود الشركات العاملة في التكنولوجيا من كافة أرجاء العالم، أو الاستخدام المكثف لمنتجات وتقنيات التكنولوجيا الحديثة في العالم العربي، إلا أن هذا وحده لا يكفي. الفائدة من وجود هذه الشركات بيننا هي الحفاظ على علاقة جيدة مع مصادر التكنولوجيا والاطلاع على منتجاتها وتطبيقاتها التي نستفيد منها في اقتصادنا وقضايانا التنموية. جوهر الإنتاج التكنولوجي هو المعرفة، وهذه المعرفة لا تأتينا مع الأجهزة والماكينات الجاهزة التي نستوردها في الخارج.
علينا أن نقسم التكنولوجيا إلى قسمين، التكنولوجيا المجسدة على شكل منتج جاهز للاستخدام، والمعرفة، وهذه الأخيرة هي التي نحتاجها لإطلاق مسيرتنا نحو عصر التقنيات المنتجة بسواعد وعقول محلية، وهذا يقودنا إلى جوهر هذه النقطة، ماذا لو استثمر القطاعان الخاص والعام في الأصول العلمية المعرفية أكثر من الاستثمار في الأصول المادية المنتجة بهذه المعرفة؟ بدل أن نشتري السمكة علينا أن نفهم كيف ومم صنعت الصنارة، وعلينا أمتلاك أدوات الصيد.
إن شرط الاستثمار في الأصول المعرفية وجود قاعدة محلية للبحث العلمي والتطوير، ومسؤولية تأسيس هذه القاعدة مشتركة بين كافة قطاعات ومكونات الدولة وفي مقدمتها القطاع الخاص. ولتأسيس هذه القاعدة لا ضير في استيراد العقول والمواهب غير العربية، بل إن الدول التي لحقت اليوم بركب التكنولوجيا وتفوقت في بعض مجالاتها، بدأت أولى خطواتها باستقدام الخبراء من الخارج لقيادة وتوجيه حركة العلوم والبحوث والتطوير، ومهما بلغت تكلفة هذا الاستثمار المعرفي إلا أن نتائجه عظيمة ومستدامة.
لقد تغير الموقف من التكنولوجيا غير المجسدة، أو الأصول المعرفية منذ بدايات تسعينيات القرن الماضي، فأصبح جزء كبير من هذه الأصول متاحًا للتداول باستثناء بعض النظريات والمعادلات التي تحتفظ بها الدول في مجال التقنيات الأمنية والصناعية للحفاظ على تفوقها، وهذا حق طبيعي لأي دولة تنتج المعرفة التكنولوجية بإمكاناتها المحلية. وخلال فترة طويلة قد تصل نهايتها إلى بضع سنوات خلت، كان تداول هذه المعرفة محصوراً بين الكتل الثلاث، أمريكا وأوروبا واليابان، حتى أن حجم تداول المعرفة بين هذه الكتل وصل إلى 68 مليار دولار خلال هذه الفترة، بينما لم يتجاوز نصيب الدول النامية من التداول المعرفي 12 مليار دولار أي 18% من حجم التداول الكلي. ولا تزال أوروبا حتى هذه اللحظة المصدر الأكبر للمعرفة التكنولوجية المتجهة نحو العالم الثالث، حيث تشكل الأصول المعرفية 22% من أصل صادراتها تليها الولايات المتحدة بنسبة 18%.
اليوم، الأصول المعرفية متاحة أكثر، لكن ليس هناك إقبال من قبل القطاعين الخاص والعام على استيرادها وتوطينها لأنها تحتاج إلى مزيد من العمل في مجالي البحث والتطوير حتى تصبح مجسدةً بسلع ومنتجات على شكل آلات ومصانع وتطبيقات وغيرها. نحتاج إلى خطة متكاملة من أجل تحفيز الاستثمار في الأصول المعرفية، وعلينا أن نبدأ من المؤسسة الأكاديمية، مدارس وجامعات ومعاهد لبحث آليات تطوير العلوم بما يتناسب مع التوجه العام نحو امتلاك التكنولوجيا، ولكي تتحول منظومة العلم الوطنية في بلداننا إلى منظومة ابتكار. وعلينا بناء مراكز بحوث علمية متطورة، وكما قلنا لا ضير من استقطاب الكفاءات من أنحاء العالم كافة لقيادة حركة البحث العلمي.
نحن بحاجة إلى جملة من السياسات الرسمية فيما يتعلق بتحفيز الاستثمار في المعرفة وأصولها المستوردة وتقديمها على استيراد الأصول التكنولوجية المجسدة، مثل حماية الملكية وبراءات الاختراع وضمان وجود حاضنات تكنولوجية لتطبيق الأفكار الخلاقة، وتعزيز القوانين التي تحمي المنتج الوطني في السوق المحلية، والأهم من كل ذلك بحاجة للثقة بالعقول والمواهب الوطنية وبالقدرة على الإنتاج الوطني المنافس أو القادر على سد جزء من الحاجة المحلية لتطبيقات التكنولوجيا بمختلف أشكالها.
لمراحل تاريخية طويلة كنا أسياد الاكتشافات والاختراعات، والعودة لهذا التاريخ ضرورية جداً ليس فقط للحديث عن أمجاد الماضي بل لأن هذا التاريخ يمنحنا الأمل بالمستقبل الذي يجب أن يكون لنا فيه نصيب من منجزاته وصناعاته الحديثة.

رئيس مجلس الإدارة التنفيذي لـ «إنفستكورب»

محمد بن محفوظ العارضي