مايكل كريبون
في حين تعكف الصين وروسيا والولايات المتحدة على صَقل قدراتها الحربية المضادة للأقمار الصناعية، تجري الجولة الثالثة من سباق "الاستيلاء على الأراضي المرتفعة" في الفضاء على قدم وساق. وهذه الجولة متميزة لأنها تضم ثلاثة متسابقين، في حين كان عدد المتسابقين في الجولتين الأولى والثانية خلال سنوات الحرب الباردة اثنين فقط. ولكن مثلها كمثل الجولتين السابقتين، تفرض جولة اليوم من سباق الفضاء مخاطر التصعيد السريع واشتداد حِدة الصراع بين القوى الكبرى. ومن الممكن أن تساعد مجموعة من القواعد البديهية في نزع فتيل الصراع في الفضاء ومنعه. ولكن للأسف، يبدو أن روسيا والصين لا رغبة لديهما في التفاوض على مدونة سلوكية لدول مسؤولة ترتاد الفضاء.
بدأ أول سباق فضاء في عام 1957، عندما أطلق الاتحاد السوفييتي سبوتنك، أول قمر اصطناعي يدور حول الأرض. وقد ارتأت إدارة الرئيس الأميركي دوايت أيزنهاور أن تترك سبوتنك والأقمار التي تلته لحال سبيلها، مدركة أن الولايات المتحدة من الممكن أن تسبق برامج الفضاء السوفييتية وأن تكسب الكثير من عدم تدمير تلك الأقمار.
كما وصل جون ف. كينيدي، خليفة أيزنهاور إلى الاستنتاج ذاته. ولكنه قطع شوطاً أبعد، فانضم إلى الاتحاد السوفييتي في تأييد القرار الصادر عن الأمم المتحدة بشأن التعاون في مجال الفضاء. بيد أن كينيدي انتبه إلى المخاطر بعد التجربة النووية الجوية التي أجرتها الولايات المتحدة في يوليو 1962 والتي تسببت عن غير قصد في تدمير ستة أقمار صناعية على الأقل، بما في ذلك بعض أقمار تابعة للاتحاد السوفييتي. وبعد بضعة أشهر، كانت أزمة الصواريخ الكوبية سبباً في تحفيز ودفع الاتفاق على حظر التجارب في الغلاف الجوي. وفي عام 1967، حوَّل الرئيس الأميركي ليندون جونسون والزعيم السوفييتي ليونيد بريجينيف قرارات الأمم المتحدة إلى معاهدة الفضاء الخارجي، التي أذنت بنهاية سباق الفضاء العسكري الأول.
ثم ظهرت بشائر الجولة الثانية من المسابقة في منتصف سبعينيات القرن العشرين. فقد اختبر الاتحاد السوفييتي في عهد بريجينيف نوعاً جديداً من الأسلحة المضادة للأقمار الصناعية، وقررت إدارة الرئيس جيرالد فورد الرد بالمثل. وفي عهد الرئيس جيمي كارتر، لجأت الولايات المتحدة إلى الدبلوماسية للحد من برامج الأسلحة المضادة للأقمار الصناعية، غير أن القوتين العظميين لم تقتربا حتى من الاتفاق على كيفية تعريف السلاح الفضائي.
ثم في عام 1983، أطلقت إدارة الرئيس رونالد ريجان مبادرة الدفاع الاستراتيجي، التي تسببت في تصعيد المنافسة. وانحسرت الموجة الثانية من المنافسة في عام 1987، عندما وافق ريجان وميخائيل جورباتشوف على معاهدة تقضي بإزالة الصواريخ المتوسطة المدى، ثم انتهت تماماً عندما تفكك الاتحاد السوفييتي.
أما أحدث جولات المنافسة العسكرية في الفضاء في عام 2001 فكانت عندما انسحبت الولايات المتحدة في عهد الرئيس جورج دبليو بوش من معاهدة الصواريخ المضادة للصواريخ الباليستية وأظهرت قدرات متطورة في تحديد الأهداف بالاستعانة بتكنولوجيا الفضاء في حربها في العراق. وفي ذلك الوقت، لم تكن روسيا في موقف يسمح لها بالمنافسة. بيد أن الكرملين عمل تدريجياً على تعزيز الاستثمار في القدرات "الفضائية المضادة". وفعلت الصين نفس الأمر، فاستعرضت في عام 2007 نظام تسليح جديداً مضاداً للأقمار الصناعية يتمتع بقدرة تدمير عالية. وكان اختبار الصين، مثله كمثل التجربة النووية الجوية التي أجرتها الولايات المتحدة في عام 1962، شديد التدمير لبيئة الفضاء، حتى أنه تسبب في خلق حقل شاسع وقاتل دون تمييز من الحطام.
وفي عام 2008، استخدمت الولايات المتحدة صاروخاً اعتراضياً مكيف خصيصاً للإطلاق من البحر لإسقاط قمر صناعي استخباراتي أميركي مختل قبل عودته إلى دخول الغلاف الجوي. والآن تستخدم الولايات المتحدة نسخة مصغرة من مكوك الفضاء بدون طيار لممارسة "عمليات المجاوَرة": الاقتراب من أقمار صناعية أخرى دون إلحاق الأذى بها. كما أطلقت روسيا ثلاثة أقمار صناعية لعمليات المجاورة. ونجحت الاختبارات الصينية للأسلحة المضادة للأقمار الصناعية إلى الحد الذي أصبح من الممكن معه الآن تصميمها بحيث تخطئ أهدافها.
صحيح أن الجولة الثالثة من المنافسة العسكرية في الفضاء تظل أقل حِدة من الجولتين الأولى والثانية، ولكنها تستجمع القوة والزخم. والسؤال الآن هو كيف يمكن نزع فتيلها.
الحق أن روسيا والصين تدعمان إبرام معاهدة دولية لمنع تسليح الفضاء. غير أن اقتراحهما لا يخلو من عيوب كبرى، بما في ذلك الصعوبة القديمة ذاتها والمتمثلة في الاتفاق على تعريف ما قد يُعَد سلاحاً فضائيا. إن أغلب القدرات المتصلة بالفضاء، مثل أشعة الليزر وعمليات المجاورة، تنطوي على تطبيقات سلمية وعسكرية في آن. وتشكل عملية الرصد والتحقق من الامتثال تحدياً آخر. وحتى لو تسنى الاتفاق على بنود ونصوص، فإن التصديق على المعاهدات وتنفيذها قد يستعرق عقوداً من الزمن، كما كانت حال معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية.
ويتمثل نهج أبسط ــ وإن لم يكن سهلاً بأي حال ــ في الاتفاق على مدونة لقواعد السلوك للفضاء. والخبر السار هنا هو أن إطار مثل هذه المدونة الدولية ــ التي تصورها مركز ستيمسون (الذي شاركت في تأسيسه) في عام 2002 ــ قائم بالفعل، ومُعَد بالتفصيل بواسطة الاتحاد الأوروبي. أما الخبر السيئ فهو أن الصين وروسيا، والعديد من البلدان النامية، تبدي عليه اعتراضات قوية.
الواقع أن البلدان النامية ترفض محاولة الاتحاد الأوروبي تجنب عملية الصياغة التمهيدية في إطار الأمم المتحدة. كما رفضت تأكيد مشروع المدونة على الحق الوطني والجمعي في الدفاع عن الذات ــ وهو الحق المنصوص عليه في ميثاق الأمم المتحدة. كما تريد الصين وروسيا أن تقتصر المدونة على الأنشطة الفضائية المدنية والتجارية ــ حتى برغم أن برامج الفضاء العسكرية هي جوهر المشكلة والدافع الرئيسي لوضع المدونة في المقام الأول. ولن يقيد مشروع المعاهدة الذي تدعمه روسيا والصين سوى الأسلحة المتمركزة في الفضاء، وليس برامج الأسلحة المضادة للأقمار الصناعية المتمركزة على الأرض.
من الواضح أن روسيا والصين لا ترغب أي منهما في الحد من قدراتها في مجال الأسلحة المضادة للأقمار الصناعية؛ كما تعكف الولايات المتحدة على ترقية قدراتها. وقد تكون تدابير الشفافية وبناء الثقة مفيدة. كما قد تفيدنا المبادئ التوجيهية للاستخدام المستدام للفضاء الخارجي، والتي ربما تصدرها لجنة الأمم المتحدة المعنية بالاستخدامات السلمية للفضاء الخارجي. ولكن الجولة الثالثة من المنافسة الفضائية لن تنتهي قبل أن تصبح القوى الكبرى كافة على استعداد للموافقة على مدونة للسلوك المسؤول.
المؤسِّس المشارك لمركز ستيمسون في واشنطن العاصمة.