أ.د. حسني نصر
رغم أن رحيله لم يكن مفاجئا وسبقته شائعات عديدة وفترة غياب إجبارية في غرفة العناية المركزة، فان وفاة الكاتب الصحفي العربي الأشهر محمد حسنين هيكل الأسبوع الفائت أحدثت حالة من الحزن العام لدي الجميع، سواء من أحبوه إلى درجة العشق والتقديس أو من كرهوه إلى درجة التكفير. ففي لحظة إعلان وفاته أدرك الكل أن مصر فقدت برحيله علما من أعلامها ورمزا من رموزها السياسية والإعلامية، قل أن يجود الزمان بمثله.
كان هيكل الصحفي والسياسي والمحلل والمفكر والكاتب ظاهرة نادرة ربما في العالم كله. احترف الصحافة شابا يافعا في مطلع أربعينيات القرن الفائت عندما كانت مهنة من لا مهنة له، ولا تتمتع بوضع اجتماعي متميز. ولم يكن لهذه المهنة بريق خاص يشجع على الاستمرار فيها سوى لهؤلاء الذين نذروا أنفسهم لها وأوقفوا حياتهم عليها حبا وعشقا، وربما زلفى وتقربا من رجال السلطة ومراكز صنع القرار. ولعل هذا ما دفع هيكل إلي الاحتماء مبكرا بمجموعة صاعدة من الصحفيين الشبان الذين لا ينتمون إلي طبقة الباشوات، وكانوا أشبه بكائنات فضائية هبطت علي الصحافة المصرية وسرعان ما استولوا بفضل شجاعتهم وجرأتهم علي مركب الصحافة الشعبية الجديدة في مصر في نهاية عصر الملكية، فأصدروا الصحف والمجلات، وقدموا نوعا جديدا من الصحافة والصحفيين الذين يجمعون كل المتناقضات ويكسرون كل القوالب التقليدية، يخاطبون الشارع ويخاطبون السلطة في نفس الوقت، ويكتسبون قوتهم من أرقام التوزيع الكبيرة إلي جانب المصروفات السرية والهبات والعطايا من القصر الملكي والسفارات الأجنبية، يهاجمون الاستعمار الإنجليزي ويطالبون برحيله صباحا ويسهرون حتى الفجر في ضيافة السفير البريطاني. هذه المدرسة الجديدة التي تزعمها صحفيون شباب مثل محمد التابعي والإخوان مصطفي وعلي أمين كانت القبلة الصحفية التي حج إليها هيكل مبكرا وتتلمذ فيها وحصل منها علي الخبرة الكافية التي مكنته من العمل والنبوغ في كل العصور التي عايشها بدء من عصر الملك فاروق وانتهاء بعصر رئيس الضرورة – حسب وصفه- عبد الفتاح السيسي.
بدأت علاقتي بهيكل كغيري من أبناء جيلي قارئا نهما لكل ما كتب وذلك عندما كنت ادرس الصحافة بجامعة القاهرة في مطلع ثمانينات القرن الفائت. وقتها كان هيكل مغضوبا عليه من الرئيس الراحل أنور السادات، وهو الغضب الذي انتهي باعتقاله للمرة الأولي والأخيرة في حياته، في سبتمبر 1981 مع مجموعة كبيرة من الصحفيين والكتاب والمثقفين وأساتذة الجامعات. بمرور الأيام ومع دخولي عالم البحث والتدريس بالجامعة تغيرت نظرتي للأستاذ وأصبحت نظرة ناقدة سواء لكتاباته وكتبه الكثيرة، أو لموقعه من السلطة وأدواره الإيجابية والسلبية في تطور الصحافة المصرية والسياسة المصرية بوجه عام.
على مستوى الصحافة يمكن القول إن هيكل أكسب الصحافة المصرية الكثير من القوة والاحترام من جانب السلطة، ولكنه رسخ في نفس الوقت لعلاقة مشوهة بين الصحفيين والسلطة في مصر انتقلت منها إلى دول عربية أخرى. تقوم هذه العلاقة على طغيان السلطة على الصحافة، وتصنيف الصحفيين إلى مؤيدين ومعارضين، والي أبناء النظام وأعداء النظام. وفق هذه المعادلة كان لهيكل وتلاميذه وضعية خاصة في كل العصور بوصفهم أبواق السلطة والمتحدثين باسمها، وتمتعوا بامتيازات عديدة لم تتوافر لغيرهم، حتى انهم كانوا ولسنوات طويلة يتنقلون بين رئاسة تحرير الصحف والمجلات القومية دون أن يفسحوا المجال لأي صحفي من خارج دائرة المرضي عنهم سياسيا للدخول إلي عالمهم الصحفي الوردي. في المقابل عانى صحفيون كثر من الاعتقال لسنوات طويلة ربما بعلم وتوجيه من هيكل نفسه، كما في حالة أستاذه مصطفي أمين، فيما عانى أخرون من الإبعاد والإخفاء القسري وربما القتل والنقل إلى وظائف غير صحفية، وكلها ممارسات تمت وقت أن كان هيكل ملء السمع والبصر والعقل المدبر للنظام، وبعضها تم أثناء توليه حقيبة وزارة الإرشاد القومي في آخر أيام جمال عبد الناصر. وإجمالا وباستثناء الشهر الذي ذاق فيه مرارة الاعتقال قبل اغتيال السادات، كان هيكل دائما علي يمين السلطة الحاكمة، داعما ومبررا ومرشدا وسفيرا فوق العادة، وفي بعض الأحيان منظرا وموجها. وبعد خروجه من المعتقل عاد ليكون إلي يمين نظام مبارك، وهو الموقع الذي لم يبرحه إلى أن تأكد من نجاح ثورة يناير 2011 وعزل مبارك، وسرعان ما عاد إلي مكانه المفضل بعد إطاحة الجيش بالرئيس المنتخب في يوليو 2013، وحتى وفاته.
على مستوى الدور السياسي، لم يكن هيكل صحفيا فقط وإنما كان سياسيا أيضا ينتمي إلى النظام سواء بشكل رسمي لفترات قصيرة، وبشكل غير رسمي في أوقات كثيرة. وعلى هذا الأساس يجب أن يتم تقييم دور هيكل السياسي علي أساس النتائج التي حققها النظام على الأرض. هذا التقييم يؤكد أن هيكل يجب أن تنسب اليه كل انتصارات الرؤساء الذين عاصرهم وكل هزائمهم أيضا، باعتبار انه كان المستشار المقرب منهم. وعندما يكتب تاريخ هذه الفترة لن يكون غريبا أن نعثر له على دور في الإصلاح الزراعي، وحركة التصنيع، وتأميم قناة السويس، وحرب السويس، وتأميم الصحافة، وبناء السد العال، ولكننا في نفس الوقت يجب أن نسأل عن دور ه أيضا في كل النكسات السياسية التي عاصرها وكان من صناعها الرئيسيين، بدء من الانقلاب على الديمقراطية في 1954 وعزل الرئيس محمد نجيب، مرورا بالتدخل العسكري في الكونغو ثم اليمن، ثم الهزيمة الكبرى أمام إسرائيل في يونيو 1967، وانتهاءً بدوره في الانقلاب على الديمقراطية الوليدة بعد ثورة يناير.
هكذا هو هيكل دائما يثير الجدل حيا وميتا، حتى عندما أوصي أن تخرج جنازته من مسجد الحسين في قلب القاهرة القديمة، كان يبحث عن وداع جماهيري صاخب يليق به، ويعادل وداع المصريين لعبد الناصر وام كلثوم وعبد الحليم حافظ، ويتماشى مع الصخب الذي أحدثه على مدي عقود طويلة في مصر والعالم، ولكنه للأسف لم يحصل عليه.
أكاديمي في جامعة السلطان قابوس