تمارينٌ على الإيجابية

مقالات رأي و تحليلات الاثنين ٢٢/فبراير/٢٠١٦ ٠٠:٤٥ ص

زاهي وهبي
‏»راقب أفكارك لأنها ستصبح أفعالاً. راقب أفعالك لأنها ستصبح عادات. راقب عاداتك لأنها ستصبح طباعاً وراقب طباعك لأنها ستحدد مصيرك» (فرانك أوتلو)

كانت أمي رحمها الله ترافقني إلى عتبة الباب كلما هممتُ بالخروج من البيت وهي تردد على مسامعي دعاء قصيراً تقول فيه: «اللهم وَفِّق النَّاسَ كُلَّهم كي يوفِّقكَ، واحرس الشبابَ جميعهم كي يحرسكَ». بَقِي هذا الدعاء معلّقاً في أذني كالقرط، أهتدي به وأعمل بمضمونه مؤمناً أنها لا تزال تردده حيث هي لدى بارئ الأرواح.

أفهم الدعاء المذكور على النحو التالي: الخير يصيبك إذا أصاب الناس، والنجاح يأتيك من خلال الجماعة، على عكس ما يظنّه بعضهم بأن النجاح لن يكون حليفه متى كان لغيره منه نصيبٌ، وأن التوفيق ينبغي أن يكون حكراً عليه حتى يتحقق. لا، قطعاً لا، ثمة تحت الشمس مكانٌ للجميع، والأرزاق عند الله متساوية فلا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى. المشكلة أن الإنسان غير عادل، جَشِعٌ وطمّاع يريد كل شيء لنفسه، متوهِماً أنه متى حارب الآخرين ناله نصيبٌ من النجاح أكبر، لذا نجد أناساً يموتون من التخمة وأناساً آخرين يموتون من الجوع، لو اكتفى الإنسان بحاجته وشارك الآخرين بعض ما يفيض عنه (نقول بعض وليس كل) لكانت الدنيا بألف خير، وَلَخفتت مشاعر الضغينة والكراهية والبغضاء وتلاشى الحسد والغيرة وسواها من مشاعر سلبية، وارتفع منسوب المشاعر الإيجابية.
لا يستغربن أحد أهمية المشاعر ودورها المحوري في رسم خطوات الإنسان وتصرفاته، المشاعر تتحول إلى أفكار والأفكار تتحول إلى أفعال والأفعال هي ما يحدد طبيعة حياتنا وسلوكنا وعلاقاتنا بالآخرين. الشعور بالغبن والإجحاف وغياب العدل والمساواة كلُّها أمور تُوَلِّد مشاعر شديدة السلبية، يتراكم الغضب والإحساس بالظلم والقهر متحيناً فرصة الانفجار انتقاماً من الدنيا ومَن فيها.
لسنا ضد مطالبة المظلوم بحقه وبرفع الظلم عنه، هذا أمر مفروغ منه، لا جدال فيه ولا مساومة عليه، خصوصاً متى صدر الظلم عمن ينبغي به تحقيق العدالة، أي السلطة الحاكمة. لكننا نكتب الآن عن المشاعر الفردية لا الجماعية، عن الأفعال التي تؤدي إلى قيام علاقات إنسانية سليمة أو إلى فساد تلك العلاقات. نؤمن إيماناً راسخاً بأن كلَّ ما يصدرُ منا يعود إلينا بشكل من الأشكال، ازرع خيراً تحصده وازرع شراً تدميك أشواكه. طبعاً ليس الأمر بهذه السهولة، الحياة ليست مجرد ثنائيات خيراً وشرّاً أو أبيض وأسود. لو كانت على تلك الصورة لَهانت أمورٌ كثيرة. في الحياة مساحات رمادية كثيرة، وتقاطعات بين الخير والشر والإيجاب والسلب والبياض والسواد، النَّفْس البشرية مليئة بالسراديب والدهاليز والأروقة ولا يمكن التعامل معها فقط على قاعدة الفسطاطَيْن، داخل كلُّ منا الكثير من التقاطعات والتشابكات، لذا لا بد من بذل جهد حقيقي لكي يصبح الواحد منا مصدراً لطاقة إيجابية أو نورانية.
أنّى كنتَ وأياً كان موقعك أنت خليفة الله في أرضه، إذا انطلقت من هذه القاعدة يصح ساعتها أن تسأل نفسك كل يوم كم أنت جدير بهذه التسمية، وهل ما تقوم به وما يصدر عنك يجعلك جديراً بصفتك، أي بإنسانيتك الوارثة لأرض الله؟ أعرفُ، من حقك أن تغضب وتنفعل وتشعر بعدم العدالة وغياب المساواة، على الكوكب كثير من الظلم والمظلومين، ثم أنك قد تمرض وتتألم وتفقد عزيزاً غالياً وتذرف الدموع ويصيبك الأرق، لعلك تشعر أن حظّك من الدنيا لا يتوافق مع نظرتك لنفسك وقناعتك بما تستحق وتستأهل. كلُّ ما تقدم حقك المشروع، لكن فكّر قليلاً، هل يفيدك في شيء أن تغضب من أخيك مثلاً، أن تعادي جارك، أن تحسد زميلك في العمل، لأن كلاً منهم يحظى بما لم تحظَ به. أليس الأفضل أن تصرف طاقتك على نفسك عِوَض إهدارها على الآخرين؟ على هذه الأرض متَّسع للجميع، لكن «قُتِلَ الإنسان ما أكفره» (عبس،١٧). منذ بدء الخليقة اختار قابيل أن يقتل أخاه هابيل. والله لو خُيِّرتُ بين الأول والثاني لاخترت أن أكون المقتول لا القاتل، ليس بالمعنى المادي الفيزيولوجي فحسب، بل بالمعاني كلِّها، أفضِّلُ ألف مرة التلاشي والتواري من أن أكون حاضراً بفعل مشاعر سلبية وأفعال لا تجلب الخير لأخي الإنسان.
أَتُحدِّثنا عن الإيجابية في زمن الحروب والقتل والذبح والخراب وما ينجم عنها من ضغائن وأحقاد تُفرِّق بين الأخ وأخيه؟
لأن الزمن على هذه المأساوية والفجائعية تغدو حاجتنا أكبر إلى تحصين أرواحنا وتسوير أنفسنا كي لا يصيبها الخراب وتتكاثر فيها القروح، نحن ملحُ الأرض فإذا فَسُدَ الملحُ بماذا يُمَلَّح. شائعٌ ومعلوم أن المشاعر السلبية تؤذي صاحبها قبل أي أحد آخر. في الحديث الشريف «أن الحسد يأكل الحسنات»، والكراهية تلتهم أصحابها. إذاً، لأنه زمن تَقاتُلٍ وتَذابحٍ في الواقع وفي الافتراض أيضاً (داحس والغبراء عبر مواقع التواصل) لا بد لنا من تمرين النَّفْس على عدم الانجرار إلى المستنقعات الآسنة، حتى لو وجدنا بعض الرموز وقادة الرأي وصنّاع القرار ينجرفون مع تيار السلبية والخراب، ليس من الضروري أن يكون الناس دائماً على دين ملوكهم، خصوصاً متى كانوا ملوك حقدٍ وبغضاء.
تذكَّر دائماً أنتَ على هذه البسيطة لسببٍ ما أو لمهمة لا تدري غايتها النهائية_لله في خلقه شؤون_استقمْ كما أُمِرْت، ذكِّر نفسك صبح مساء أن الخير إذا عمَّ وانتشر سيكون لكَ منه نصيب، وكذلك الشرَّ، ساهمْ في رفع منسوب الطاقة الإيجابية على هذه الفانية، اخرجْ من بيتك متفائلاً، دَعْ الغضب جانباً، ردد في سرِّك أن البغضاء لا تدمر إلا ذاتها، والحسد يأكل الحسنات، والغيظ يودي بأصحابه إلى التهلكة، كُنْ جميلاً ترى الوجودَ جميلاً كما قال ايليا أبو ماضي.
كلنا لآدم وآدم من تراب.
أختم بقصيدة لي تناسبُ حالَ ما سَلَفَ من أسطر:

أهكذا تكون الطاعة؟

«ما أجملَ أن تغفرَ لي عبثي وجنوني».(فريد الدين العطّار)
لتغفرَ لي عبثي وجنوني
لتبارِكَ من حولي
كما بَارَكْتَ الذين من قبل
خَلَقْتَني للحقلِ
أردتُ أن أكونَ الحقلَ والفراشةَ
خَلَقْتَني للحُبِّ
أردتُ أن أكونَ الحُبَّ
أهكذا تَكُونُ الطاعة؟
تائهاً أرمي قلبي في بحرٍ
يلتقطُهُ القراصنةُ
أم يَرْسو في ميناءِ أمانك؟
مَن يكسرُ الزجاجةَ ليقرأني؟
مَن ينتشلُني من جوفِ الحوت؟
أَأُطلِقُ صلاتي في الجهات؟
منصتاً الى تسابيحِ الحفيف
عاشقاً أنتحبُ في قَفْرٍ
وفي صدري الواحات!
خلقتني للعطشِ والجوع
صرتُ العطشَ والجوعَ
أردتَ لي ذرِّيةً
قتلتُ أخي
ورميتُ الآخرَ في البئر
قطعتَ نسلي
وُلِدَ أبناءٌ لي من أرحامٍ كثيرة
أهكذا تَكُونُ الطاعة؟
خَلَقْتَني للوردةِ
أغواني العطرَ
لامستُ الشوكَ
خَذَلَتني الوردةُ
وما خَذَلَني الشوكُ
كلَّلَ رأسي بمجدٍ لم يأتِ بعد
عالٍ جبيني
وان مُدمَّى
كلمتي نافذةُ الدهرِ
جسدي قوتُ المساكين.
هرعتُ الى الماءِ
تفجَّرَ الماءُ في قلبي
هرعتُ الى النارِ
اندلعتْ النارُ في كفيَّ
تهتُ عن الطريقِ
دَلَّنِي على الطريقِ ظلّي
صَيَّرَنِي الحُبُّ ذئبَ حنان
عوائي زهرةُ الغرائز
عيني نجمةُ الظلام
وحيداً
أجرحُ سكونَ الليل
وحيداً
أغرزُ أنيابي في عنقِ الحياة.
جَعَلْتَني في الأَرْضِ خليفةً
أفسدتُ في الأَرْضِ
وسفكتُ الدماءَ
أهكذا تَكُونُ الطاعة؟