مستنقع الكذب

مقالات رأي و تحليلات الأحد ١٣/أغسطس/٢٠١٧ ٠٤:٣٥ ص
مستنقع الكذب

أحمد المرشد

دفعتني قصة شخصية شهدتها كان بطلها «الكذب» للكتابة عن هذا الداء العضال الذي يتجلى لنا في وجوه وأسباب كثيرة وتداعيات أكثر، وبغض النظر عن القصة لأننا نمر يوميًا بعشرات منها وكلها يتعلق بالكذب، في وقت لا يعلم الكاذب أي منزلق ينزلق وأين ستكون نهايته المحتومة مع كذبه وضلاله، ولكن المهم إنني لم أصب بضرر من القصة ولكن الضرر أصاب صاحبها وإن كان فهم عكس ذلك فهو مخطئ.

السؤال: لماذا يألف البعض الكذب رغم أن إسلامنا الحنيف نهانا عنه وحذرنا منه، ولدينا من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الكثير التي تدلنا إلى الطريق القويم وتحثنا على الصدق، فالصدق عكس الكذب، وشتان بين الصفتين، الأولى محببة إلى النفس تنهي عن المنكر وأذى الناس والأهل والأصدقاء، والثانية لا تصيب صاحبها إلا بجهنم والعياذ بالله.

وكما ذكرنا، فإن الكذب عمل مضاد للصدق، والكذب محرم، لأن الإسلام مبني على الصدق، والصدق أمانة، إذن الكذب خيانة، «ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا، ولا يزال يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذَّابا». أما أشد أنواع الكذب على الله تعالى، فهو أن يقول العبد: أوحي إلي عن الله، وهو لم يوح إليه شيء، فكما قال تعالى: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾ (الأنعام: 93)؛ وذلك لأن هذا الفعل القبيح ادعاء للنبوة، وهي من الاصطفاءات الإلهيَّة التي لا دخل للكسب والجهد البشري فيها أو في تحصيلها، بل هي محض اختيار من الله تعالى، وقد ختمت النبوة بمحمد صلَّى الله عليه وسلم كما هو معلوم بالضرورة من دين الإسلام. ونعلم جميعا أن من ادعى النبوة بعد النبي صلى الله عليه وسلم، كذابون منهم: مسيلمة الكذاب، وسجاح بنت الحارث.
ونحن العرب لدينا من القصص الكثير التي تحثنا على التوقف عن الكذب، وجميعنا قرأ ونحن صغار قصة «الراعي والذئب»، فالراعي تمادى في كذبه حتى ناله ما ناله من ضرر من كذبه على أهل البلدة الذين لم يصدقوه وقت أن تعرضت أغنامه لهجوم الذئب، لأنه سبق وأرهقهم بكذبه كل يوم ومناداته أهل بلدته لإنقاذه من الذئب حتى اكتشفوا كذبه وضلاله وأنه يسخر منهم.
ولدى الغرب قصص كثيرة أخرى تنهي عن الكذب، ومن أشهرها «بينوكيو»، وتحكي عن الطفل الخشبي «بينوكيو» الذي صنعه نجارا فقيرا في البلدة كان يجيد صناعة العرائس الخشبية وتشكيل الخشب، وكانت الدمية رائعه لدرجة يعجز المرء عن تمييزها عن الطفل الحقيقي واطلق عليه اسم «بينوكيو»، وكل من يرى الدمية أو التمثال يظنه طفلا حقيقيا من جماله وبراعة صنعه وتشكيله.
وتمضي الأيام، ويرى النجار وهو جالس بمنزله تمثاله الخشبي يتحرك، فخاف أن يكون نائما ويحلم بذلك، ولكنه مستيقظ في الواقع، ثم اقترب من التمثال ليتأكد هل هو خيال أم حقيقة، ففوجئ بأن «بينوكيو» يتحدث معه ويشكره على أنه صنعه ووعده بأن يكون صديقه. أيقن النجار أن الأمر حقيقيا وليس خيالا، وفرح بصداقة صنيعته حيث كان يعيش وحيدا، وقرر أن يعلم «بينوكيو» كل المهارات ليصير مثل الإنسان الحقيقي، فألحقه بالمدرسة ليتعلم رغم فقره وعدم مقدرته على شراء مستلزمات المدرسة الأساسية ومنها الكتب والملابس، فقرر أن يبيع بعض ملابسه للوفاء بما عليه من مصروفات «بينوكيو».
وتمر الأحداث بما لا تعجب النجار، لأن «بينوكيو» وهو ذاهب للمدرسة ليشتري الكتب، رأى مسرح عرائس وحوله بعض أطفال القرية، فاقترب منهم وقرر حضور عرض العرائس، فما كان منه إلا أن اشترى تذكرة دخول بثمن الكتب. وبينما جلس «بينوكيو» مستمتعًا بعرض العرائس أخذه الحماس ليشاركهم فقفز على المسرح وأحدث فوضى وتم إيقاف العرض ليغادر الجمهور العرض غاضبون، ليعاقب صاحب المسرح «بينوكيو» حتى قرر أحد رجال القرية دفع ثمن التلفيات فداء لإخلاء سبيله، ثم عرف منه قصته ليكتشف الرجل أن أنف «بينوكيو» تطول عندما يكذب، فيطالبه بعدم الكذب وقول الصدق لتعود أنفه لحجمها الطبيعي. وقرر الرجل إهداء «بينوكيو» قطعة من الذهب ليشتري للنجار ملابس بدلا من التي باعها من أجل تعليمه، وبينما هو في طريق عودته لصاحبه النجار يسير سعيدا بالذهب، رآه ثعلب مكار وأخبره بأنه إذا دفن الذهب في الحفر المجاورة ستصير غدا قطعا ذهبية كثيرة.. وكان من الطبيعي أن يقع «بينوكيو» فريسة لهذا الثعلب لأنه لا يدرك أن الثعلب مكار، فدفن الذهب في الحفرة ونام، ليكتشف ضياع الذهب عندما استيقظ، ليحزن حزنا شديدا ليقرر العودة إلى صاحبه النجار في التو واللحظة ليحكي له ما جرى له منذ غيابه، ولكنه اعتاد الكذب فلم يخبر صاحبه الرواية الحقيقية فأخذت أنفه تطول أكثر فأكثر، فطلب منه النجار ألا يكذب مجددا، فأخبره «بينوكيو» الحقيقة فعادت أنفه لوضعها الطبيعي. لم تنته القصة بعد، لأن «بينوكيو» تمنى وقتها أن يتحول لطفل حقيقي ليلعب مع الصبية ويساعد صاحبه في العمل، فتظهر له «جنيه» حققت له هذه الأمنية واشترطت عليه ألا يكذب حتى لا تطول أنفه وتفضح أمره، وأخبرته بأن قول الصدق منجاة له وستجعل كل أقرانه يحبونه، وقد كان حيث اجتهد في مدرسته ومصنع النجارة ولم يكذب طوال حياته.
ومن الحكايات التي قرأتها بالصدفة عن مساوئ الكذب، قصة مكتوبة في إحدى الصحف التي تفرد بعض صفحاتها لسرد حكايات القراء انتظارا للرد عليها وإيجاد حلول للمشكلة المطروحة، القصة بقدر أنها كانت مسلية فهي مؤلمة للغاية، وملخصها، فتاة تشكو لمحرر صفحة «حكايات القراء»، عن صديقتها المريضة نفسيا بالكذب على كل أصدقائها، فهي تختلق الروايات غير الحقيقية وترويها لهن لكي تجذب الانتباه لها، ورغم أن الفتاة تدعي التدين، فهي كثيرة سرد الحكايات عن مشكلات وهمية لم تكن سوى في خيالها المريض، بأن تحكي لصديقتها مثلا بأنها سبق لها الزواج وطلقت، أو أنها مصابة بمرض عضال صعب الشفاء منه، حتى اكتشف أصدقاؤها أنها تروي لهن أي مشكلة تسمعها من غيرها على أنها مشكلتها هي نفسها.
والمشكلة الكبرى لصديقات الفتاة، أنهن فهمن تفكيرها وحقيقة مرضها النفسي وادعاء الكذب، ولكنهن لم يستطعن قول الحقيقة لها حتى لا يجرحن شعورها. ولعلي ألخص هنا رد محرر الصفحة، حيث وصف الفتاة بأنها تتمتع بخيال مرضي يدفعها للكذب واختلاق القصص باستمرار، وهو اضطراب نفسي يعرفه المتخصصون بأنه «هوس التهويل والمبالغة في الكذب»، بهدف كسب الاهتمام والعطف ولفت الانتباه وتأكيد الذَّات والحضور الاجتماعي لتعويض علة أو نقص في مكونات الشخصية.
مشكلة هؤلاء أنهم ينجحون في البداية في كسب تعاطف أصدقائهم لبعض الوقت، الى أن يتبين كذبهم فيخسرون كل من حولهم لتكون النتيجة النهائية انهم يحطمون حياتهم بأيديهم.
دفعتني هذه القصة إلى القراءة كثيرًا عن دوافع الكذب، وفي عجالة أسرد أهمها وهي ناجمة عن النقص العاطفي في محيط العائلة، والشعور بالخوف وعدم الأمان، والخشية من العقاب، خصوصًا وأن الكذب رأس الذنوب التي تقودنا إلى النار. وعن عبدالله - رضي الله عنه - عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: «إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق حتى يكون صديقًا، وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب، حتى يكتب عند الله كذابًا»..رواه البخاري.
لم ينته موضوعنا بعد، لأننا لو قسمنا الكذابين لاكتشفنا أن بعض القادة يأتون على رأس هؤلاء، وكذب القادة لا يضر صاحبه فقط ولكن أوطان، وربما أجد لزاما علي أن أنصح القراء بمتابعة كتاب «لماذا يكذب القادة» للمؤلف الأمريكي جون جي ميرشيمر، ويسرد فيه حكايات عن القادة الذين اشتهروا بكذبهم وتصنيفاته لأنواع الكذب السياسي..والكتاب الآخر هو «عندما يكذب الرؤساء..تاريخ الخداع الرسمي وعواقبه» لمؤلفه إريك والترمان، ويشرح وسائل رؤساء الدول والقادة في الكذب على شعوبهم ومعارضيهم والدول الأخرى، وحقيقة الكذب في السياسة الدولية. اللهم سلمنا وأهلنا من الكذب والكاذبين.

كاتب ومحلل سياسي بحريني