«هيكل» الصحافة

مقالات رأي و تحليلات الاثنين ٢٢/فبراير/٢٠١٦ ٠٠:٠٠ ص
«هيكل» الصحافة

محمد بن سيف الرحبي
www.facebook.com
msrahbyalrahby@gmail.com

نادرون في عالمنا العربي ممن يجدون فرصاً تاريخية لدخول هذا التاريخ، وأكثر ندرة من يعرفون المشي بثقة واقتدار دون اهتزاز إذا أصيب طريق المجد بزلازل أو رحل من كان له الدور في فتح الباب التاريخي ليعبر منه صاحب الصدفة.. أو الحظ.

محمد حسنين هيكل وجد باب التاريخ مفتوحاً فدخله بثقة لأنه من الطراز القادر على الاستفادة من الفرص.. كان هيكل محظوظاً بفرصته التاريخية عندما اقترب من جمال عبدالناصر أو أن عبدالناصر قرّبه إليه حتى أصبح منظّر المرحلة الناصرية خلال حكم الزعيم وبعد رحيله حاملاً على كاهله عبء الدفاع عن رصيد شكّله عبدالناصر في وجدان أمة آمنت به منقذاً، فتحمل هيكل تبعات «الدفاع» بما في ذلك من صناعة جيدة للأعداء.

عاش «المعلم» حياة ممتدة منذ سقوط الملكية ومغادرة الملك فاروق عرش ملكه لتشاء الأقدار أن يدرك هيكل تحولات خطيرة في عمر الأمة العربية، ومصر كشاهدة على التاريخ العربي وقائدة له، كانت حركة الضباط الأحرار صفحات ينهل منها ذلك الصحفي، ما يفتح أمامه خزائن الأسرار، ومن حول مصر كانت تتشكل جمهوريات أقربها ثورة الزعيم الليبي معمر القذافي وقيام الجمهورية على أنقاض ملكية أخرى، وليس أبعدها ما حدث للملكية في اليمن.. وسعي البلدان العربية للتخلص من الاستعمار.

منذ ذلك التاريخ، ووصولاً إلى راهننا المعاصر، أتاحت الأقدار أمام محمد حسنين هيكل عبور مفاصل تاريخية اتسم أكثرها بالتغيير المؤلم، بما جعله مرجعاً ينشد لديه الرأي والرؤية، والعمق الإستراتيجي بقدرة المحلل القادر على النفاذ نحو عمق الأسرار..

يؤخذ على هيكل أنه يستشهد بالأموات، وأشياء كثيرة يمكن الدخول منها إلى مثالب لا بد منها في أي عقل بشري، فكيف بصاحب قلم عرفته الصحافة العربية والعالمية عشرات السنين.. إنما الأهم أن «المعلم» صاحب تاريخ يعجز عن صنعه كثيرون ممن أقبلوا على مهنة الصحافة، بمنأى عن الرأي المشير إلى «فرص التاريخ» المتسقة مع حظ هيكل وعلاقته بالزعيم عبدالناصر.

أن تقرأ كتاباً لهيكل هو أن تشعر بشخص يعلمك قراءة السياسة بجمال اللغة وعذوبة المعنى، يقرب إليك السياسة لترى السياسيين يتحدثون بها أمامك، ويحيط بجوانب القضية المطروحة بحيث تعتقد أن الكاتب هو من أدار لعبة كل شيء، وأنه ببساطة يقدم لك «خريف الغضب» كأنه من اخترع وقائعه ورسم خطة اغتيال السادات، كما يعطيك دروساً «ما بين الصحافة والسياسة» لتعرف الخطوط الواصلة بين عالمين يكملان بعضهما البعض في رسم تاريخ الأمم، وأن الصحفي الناجح يفترض به أن يكون «معلماً» أو أنه يبقى كاتب أخبار يتخيل في مكتبه ما يمكن أن يرشو به قارئه في اليوم التالي، بلا لون ولا طعم ولا رائحة.
نعم، كانت هناك فرص تاريخية أمام هيكل ليدخل التاريخ، لكنه استطاع أن يكتب التاريخ ويسهم في صياغة كتابة التاريخ، لأنه مؤهل بذاكرة ودأب وذكاء مهما حاول مناوئوه أن ينالوا منه، فعمره المديد كما هي يده الممتدة صنعا من الرجل قامة عملاقة لا يمكن تصور أنه يمكن لأحد الوصول إليها في صحافتنا العربية.