القاهرة- خالد البحيري
يكتشف المتجول في القاهرة من ناحية الشرق أن هناك حياة أخرى لا تشبه حياتنا العادية، فهذه المنطقة المتاخمة لحي الحسين التاريخي وقلعة صلاح الدين الأيوبي ومنطقة السيدة عائشة، تضم مقابر يعود تاريخ إنشاء البعض منها إلى نحو 200 عام، وتتمدد على رقعة كبيرة كانت في البداية على أطراف القاهرة، لكن مع التوسع العمراني أصبحت في قلب القاهرة.
الحياة التي عاشت "الشبيبة" جزء من تفاصيلها تتعلق بسكان المقابر الذين يتجاوز عددهم بحسب بيانات حكومية نحو مليوني مواطن، أو بمعني آخر فإن 2 من كل 10 مصريين يسكنون مع الأموات في نفس المكان.
هؤلاء يعيشون بشكل كامل وسط المقابر، ويتزوجون ويعيشون مع الأموات دون قلق أو خوف، ويمكن أن ترى أولادهم وهم يقفزون فوق المقابر جريا وراء الكرة، أو اختباء من بعضهم البعض وهم يلعبون "استغماية".
كما ترى ملابسهم معلقة على حبال مربوطة في أعمدة المقابر، بعد أن تم غسلها، وطرحها في الشمس لتجف، وتتناثر قطع الأثاث البالية على مداخل "الأحواش" ( مفردها حوش وهو مكان معد لدفن الموتى وعلى أحد جوانبه هناك غرفة مؤثثة يستريح فيها أهالي الميت حتى تنتهي إجراءات ومراسم الدفن، ويلف الحوش سور من الخارج ويغلق بباب كبير نسبيا ويكون في الغالب مصنوعا من الحديد) وعلى أبوابه تجلس النسوة لتبادل أطراف الحديث قبل غروب الشمس وحتى يغطي الظلام المنطقة بكاملها.
البداية زلزال
سميرة محمد أو الحاجة سميرة كما يناديها جيرانها من سكان مقابر حي البساتين، قابلتنا بابتسامة يملؤها الأمل رغم أنها قاربت على الستين من عمرها، وقالت: "بدأت حياتي في شقة بمنطقة إمبابة بمحافظة الجيزة، ورغم أن البيت كان قديما كانت حياتنا مستقرة وكنا نعيش مثل باقي الناس، إلى أن جاء زلزال عام 1992 الذي ضرب مصر بقوة، فانهار العقار الذي كنا نسكن فيه، ولم يتمكن زوجي من إثبات أننا كنا نسكن في هذا العقار، ولم نجد مأوى لنا سوى "حوش" لأحد أقارب زوجي منحنا مفتاحه وقال لنا اسكنوا هناك مؤقتا لحين تدبير الأمور، ومع مرور الوقت وتعودنا على السكنى بجوار الأموات، وتحول الوضع المؤقت إلى دائم خاصة مع وفاة زوجي".
وأضافت: كنت في حيرة من أمري، من أين أدبر تكاليف استئجار سكن بعيد عن المقابر؟ وكيف أوفر احتياجاتي واحتياجات بناتي الثلاثة، وكنت أحمل هم زواجهن ومن سيتقدم لخطبتهن، ونحن من سكان المقابر، لكن ربنا كريم، تزوجت بنتي الكبرى منذ عامين من شاب يسكن في "حوش" مجاور لنا، وقد استأجرنا لهم "حوش" خاص بهم بـ150 جنيه شهريا (تقريبا 18 دولار) وقد رزقها الله بمولود العام الفائت.
وأردفت: كنا في السابق نخشى من سرقة التيار الكهربائي، لإنارة الغرفة المخصصة لنا ليلا، لكن مع تزايد عدد سكان المقابر أصبح الجميع يضيئون غرفهم منذ غروب الشمس، والبعض منهم اشترى تليفزيون، وريسيفر، ويعيشون حياتهم بشكل طبيعي.
هارب للمقابر
وعلى مقربة من "الحوش" الذي تسكن فيه سميرة وبناتها، يسكن حسين القناوي، والذي هرب من محافظة قنا في جنوب مصر إلى القاهرة بحثا عن لقمة عيش يقتات منها، لكنه -وبحسب روايته لـ"الشبيبة" فوجئ بأن الحال لا يختلف كثيرا عن موطنه الأصلي، وبعد تنقل من المبيت في المساجد لأكثر من عام، تعرف على أحد رواد الجامع الأزهر، والذي عرض عليه أن يعطيه "الحوش" أو المقبرة الخاصة بعائلته في حي الإمام الشافعي يسكنها ويحرسها من السرقة، ويعمل على تنظيفها باستمرار، فوافق وانتقل للعيش هناك قبل نحو 10 سنوات، وبدأ الخروج للعمل في الإنشاءات والعقارات الجديدة، وبعد أن استقر به الحال ذهب إلى الصعيد وأحضر زوجته وولديه.
وأضاف: كانت المعضلة في إقناع زوجتي بالعيش في المقابر، وسط الأموات، فضلا عن التفكير في أطفالي الصغار الذين يصحون في كل يوم على أصوات البكاء والنحيب من مشيعي الجنازات، لكن "ما باليد حيلة" ولقمة العيش تفرض عليّ هذا الأمر، كما أن عملي باليومية لا يسمح لي باستئجار شقة حتى لو غرفة واحدة، فالإيجارات ارتفعت بشكل جنوني، وأقل سكن يكبدني 600 جنيه في الشهر مضافا إليها فاتورة الكهرباء والمياه.
وتابع: لدينا كهرباء في "الحوش" وننقل المياه من مكان قريب منه، لكن مشكلتنا الأساسية في الصرف الصحي، ولا نستطيع حفر خزانات في الأرض فالمنطقة بها رفات أموات من عشرات السنين، وربما توجد مقابر في باطن الأرض تحت هذه المقابر.
وتمنى قناوي من الحكومة أن تمنحه سكنا في أحد الأماكن المخصصة للفقراء، حتى يخرج هو وأولاده من هذه المقابر التي أصبحت مرتعا للأمراض، ولا يشم فيها سوى رائحة الموتى، وأجسادهم المتحللة، وتنتشر فيها الحشرات والقوارض والكلاب الضالة.
خمس نجوم
وكما أن هناك مقابر و"أحواش" بسيطة مبنية بالطوب وغير مطلية أو بها أدنى مقومات الحياة، هناك مقابر خمس نجوم وهي المقابر التي بنتها أسرة محمد على في وسط مقابر "الغفير" على مقربة من حي السيدة عائشة، فالمقبرة يتبعها ما يشبه البيت أو الشقة، ومبني بشكل مجهز ومؤثث، لكن الغرض لم يكن أيضا للحياة بل لاستقبال الأمراء و"الباشاوات"، خلال مراسم الدفن، ويكون محظوظا من يستطيع أن يقيم في أحد "الأحواش" التابعة لهذه الأسرة التي حكمت مصر منذ العام 1805 وحتى قيام ثورة 23 يوليو 1952.
ومن هؤلاء المحظوظين رشاد حسين الذي يقيم مع بناته وأولاده، وقد استقبلنا في غرفة مخصصة للضيوف "مجلس" ومؤثثة بشكل جيد، وقال: أقوم على حراسة هذه المقابر لأن بها مقتنيات ثمينة ومنها أستار الكعبة التي كان يتم صناعتها في مصر وإرسالها لمكة المكرمة وإحضار الستائر القديمة، وهذه موجودة ومحفوظة في أماكن داخل مقابر أسرة محمد على وقيمتها لا تقدر بثمن، لدرجة أن أميرة معروفة في عصرنا الحالي عرضت مبلغ مليون جنيه للحصول على قطعة من ستائر الكعبة، ليتم تكفينها داخلها بعد موتها.
وأضاف: نعاني نحن سكان المقابر من تزايد البلطجية والخارجين على القانون بشكل لافت، وكذلك متعاطي المخدرات، والذين يستغلون عدم وجود الشرطة بشكل دائم والاختباء داخل المقابر لتجارة أو تخزين أو تعاطي المواد المخدرة، وأصبح من المألوف أن نرى بعضا منهم وهم يدخنون الحشيش والبانجو وغيره في طرقات المقابر.
وأردف: نخشى على أولادنا وبناتنا من هؤلاء البلطجية، ولذلك نغلق أبواب "الأحواش" مع آخر ضوء للنهار، ونكون شبه محاصرين حتى تشرق شمس يوم جديد، وفي حال مرض أحد أو تطلب الأمر الخروج ليلا نكون في خوف شديد ونتجمع أكثر من عائلة، خوفا من أن ينفرد البلطجية بأحدنا.
سطوة "التُربي"
وخلال جولتنا في المقابر اكتشفنا أن إيجار "الأحواش" يخضع لعدد قليل من الأشخاص وهم "التُربية" (مفردها تُربي وهو شخص يتولى عملية الدفن وحراسة المقابر، وحمايتها من سرقة الجثث التي بداخلها)، فلا يستطيع شخص الإقامة للسكن دون موافقة التُربي، والحصول على عمولة مجزية، وأحيانا الحصول على إيجار شهري لتلك الأحواش التي يترك أصحابها مفاتيحها بحوزته.
التقينا محمد العرباوي، أحد "التُربية" بالمنطقة فقال: كل يوم يأتينا وافدون جدد يريدون السكن في "الأحواش" نظرا لقلة التكلفة، وارتفاع الإيجارات بالخارج، كما أن البعض يفضل الحياة في هذا الجو الهادئ فهؤلاء الأموات، لا يزعجون أحدا، ولا يؤذون جيرانهم، كما أن "أولاد الحلال" حينما يأتون لزيارة موتاهم يتصدقون على سكان هذه المنطقة ويمنحونهم المؤن الغذائية، والفواكه باستمرار.
وعن مهن من يقيمون في المقابر أضاف: بعض من يسكنون في المقابر لا يعملون ويعتمدون على ما يأتيهم من فاعلي الخير، بينما يعمل البعض منهم في وظائف بسيطة في الحكومة مثل العمال، وخدم المساجد، وعمال اليومية في قطاع الإنشاءات والمقاولات، بينما تعمل النساء والأطفال كباعة متجولين في إشارات المرور والميادين العامة، بينما بعضهم يعمل في مهن تتعلق بالمقابر كالترميم والدفن والحراسة وغيرها.
غادرنا المكان ونحن نرى وجوها ترك الزمن بصماته غائرة عليها، وأطفالا بعضهم غابت عن شفتاه الابتسامة وحلت مكانها ملامح الكبر والشيخوخة قبل الأوان.