نضال هلموت كول

مقالات رأي و تحليلات الثلاثاء ١١/يوليو/٢٠١٧ ٠٤:٠٠ ص

كريستوف بِرترام

بوفاة هلموت كول، رحلت عنا «الشخصية الأكبر في قارة أوروبا لعقود من الزمن»، كما وصَف بِيل كلينتون المستشار الألماني الأسبق. كان كول يمتلك أغلب مواهب السياسي الناجح: الطموح، والقسوة، والمثابرة، والمهارات التكتيكية، والقدرة على النفوذ إلى عقول الناس العاديين. على النقيض من سلفيه، ويلي برانت وهلموت شميدت، لم يكن كول رجلا ذا كاريزما (التي تمتع برانت بوفرة منها) ولم يملك ناصية الكلم. ولكنه كان، خلافا لسلفيه، صاحب رؤية واضحة لمستقبل بلاده. وهذا ما مكّن كول من تحقيق ما لم يكن متصورا من قبل: إعادة توحيد شطري ألمانيا داخل أوروبا الموحدة.

لا يزال كثيرون، وبخاصة في ألمانيا، يذكرون تلك الأشهر غير العادية في أواخر العام 1989 وأوائل العام 1990، عندما فَقَد السوفييت السيطرة على أوروبا الشرقية، ولا زالت علامات الدهشة تعتلي وجوههم عندما يتأملون في حياة ذلك الرجل الريفي العادي إلى درجة باعثة على الضجر والذي تمكن من اغتنام الفرصة لتوحيد بلده المقسم والتفوق ببراعة وحذق على خصومه في المناورة والدهاء. ويبدو أنهم يعتقدون أن كول كان محظوظاً بوجوده في المكان المناسب في الوقت المناسب.

ولكن النتائج المحظوظة في الدبلوماسية نادراً ما تأتي عن طريق المصادفة؛ بل لابد أن يُكتَسَب الحظ اكتساباً. في صيف العام 1989، كان كول مندهشا كأي شخص آخر إزاء السرعة التي جرت بها الأحداث. ولكنه استخدم وقته منذ أن أصبح مستشاراً لألمانيا في العام 1982 للاستعداد إذا ما أومأ التاريخ.
لا شك أن إدارة شؤون السياسة الداخلية تطلبت انتباه كول ومهاراته؛ ولو كان الأمر خلافاً لذلك، فما كان ليظل الشخصية المهيمنة في حزبه وبلاده لفترة أطول من أي مستشار ألماني آخر منذ أوتو فون بسمارك. ولكن ما ظل على رأس أولوياته، وأخرج أعظم مواهبه، كان هدف ضمان مستقبل ألمانيا داخل أوروبا السلمية. وبوصفي صحافياً في الجريدة الأسبوعية الألمانية «داي تسايت» في ذلك الوقت، دارت بيني وبينه محادثات شخصية متكررة في مكتبه في بون. وقد كرر على مسامعي أن «السياسة الخارجية أكثر أهمية من السياسة الداخلية، لأن أخطاءها قد تكون باهظة التكلفة».
كانت الطريقة الرئيسية التي انتهجها كول لتجنب ارتكاب الأخطاء هي بناء الثقة مع جميع القوى، الكبيرة والصغيرة، التي كانت وثيقة الصِلة برفاهة ألمانيا. وعلاوة على ذلك، كانت ألمانيا في احتياج إلى الدعم الخارجي لأي درجة من إعادة الإدماج الوطني إذا سنحت الفرصة. وفي حين كانت الأداة الاستراتيجية الرئيسية التي استعان بها شميت هي ضمان القدرة على إجراء حسابات دقيقة، فإن أداة كول الرئيسية كانت بناء الثقة. وكان عازماً على بنائها وتعزيزها.
منذ بداية ولايته، سعى كول إلى إقامة أوثق علاقة ممكنة مع حليفة البلاد الرئيسية التي لا غنى عنها، الولايات المتحدة. وبعد سقوط حكومة شميت في العام 1982 تحت وطأة معارضة شعبية هائلة لاستضافة صواريخ أمريكية نووية متوسطة المدى، اتخذ كول موقفاً صارماً، انطلاقا من إدراكه لحقيقة مفادها أن الإذعان للضغوط الشعبية والتخلي عن التزام ألمانيا من شأنه أن يوجه ضربة قوية لاحترام وثقة الولايات المتحدة ومصداقيته في موسكو.
وبعد سنوات، عندما بدأت الجدران في أوروبا تتصدع، أنشأ كول علاقة فريدة من الثقة في واشنطن. ووجد كول في الرئيس الأمريكي جورج بوش الأب نصيراً حازماً وحاسماً لإعادة توحيد شطري ألمانيا وضامناً لبقاء ألمانيا المنبثقة من هذه العملية راسخة في الغرب.
في الوقت نفسه، ورغم أن القيادة الشيوعية المسنة العاجزة في الاتحاد السوفييتي لم تعرض احتمالات كبيرة للتقدم، تمسك كول بسياسات الوفاق التي انتهجها برانت وشميت، والتي كان حزبه شديد المعارضة لها. وعندما تولى ميخائيل جورباتشوف السلطة، اعتبر كول في مستهل الأمر المقترحات الجريئة التي تقدم بها الزعيم السوفييتي الجديد للحد من التسلح مجرد دعاية على طريقة جوزيف جوبلز.
ولكن عندما أدرك جدية جورباتشوف، سارع كول إلى تطبيق استراتيجية بناء الثقة وأقام علاقة شخصية وثيقة مع الرجل الذي من دونه ما كان ليصبح التغيير السلمي لخريطة الحرب الباردة في أوروبا في حكم الممكن. وحتى عندما سنحت الفرصة، لم تكن لتتحقق الاتفاقيات التي أعقبت ذلك، والتي كانت مذهلة نظرا للمناخ السياسي آنذاك، إلا لأن كول كان يضع الجائزة الكبرى نصب عينيه دوما.
في نظر كول، كانت أوروبا الموحدة مسألة عاطفية عميقة، بقدر ما كانت شرطا أساسيا للسلام في أوروبا ورفاهة ألمانيا. كما نجح كول في الفوز بثقة الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران وصداقة جاك ديلور، الذي كان آنذاك رئيسا للمفوضية الأوروبية والرجل الذي صمم السوق الموحدة في أوروبا.
على نفس القدر من الأهمية، نَسَج كول شبكة من الاتصالات في جميع البلدان المحيطة بألمانيا. وكان قارئا جيدا لتاريخ هذه البلدان وبارعا في فهم الكيفية التي تشكلت بها مواقفها في التعامل مع ألمانيا. وكان مقتنعا بأن ألمانيا، باعتبارها الدولة صاحبة أكبر اقتصاد في أوروبا، لابد أن تكون العضو الأكثر إيجابية وبناء، إن لم تكن العضو الأكثر سخاء، في النادي الأوروبي.
ذات يوم فاجأني كول عندما سألني ما إذا كانت ضخامة جثته ــ كان طوله 193 سنتيمترا، ووزنه 136 كيلوجراما خلال سنوات ولايته ــ تؤكد المخاوف من طغيان ألمانيا. ولم أجد صعوبة في طمأنته. وعندما اقترب توحيد شطري ألمانيا في العام 1989، أثمرت الجهود المتراكمة التي بذلها كول على مر السنين لبناء الثقة، الأمر الذي ساعد في تخفيف المخاوف في أرباع أوروبا حتى أنه تمكن من اكتساب القدر اللازم من الدعم.
واليوم، لا تزال أصداء استراتيجية كول لبناء الثقة تتردد في الخطاب الرسمي الألماني، ولو أنها كانت أكثر تقلبا في الممارسة العملة. ومن غير المجدي أن نتكهن بالكيفية التي كان ليتفاعل بها كول مع اغتراب روسيا عن الغرب في وقت حيث كان لا يزال من الممكن تفادي تلك النتيجة؛ أو ما إذا كان كول، على عكس المستشارة أنجيلا ميركل، ليرد بالتضامن الفوري، والتأثير الأكثر مباشرة في التعامل مع أزمة الديون اليونانية في العام 2010. وهل كان كول ليستجيب لسلوك الرئيس دونالد ترامب بأن يتبرأ علنا من الولايات المتحدة؟ أو كان ليحاول بدلا من ذلك تعزيز دعائم العلاقات عبر الأطلسي؟
أمر واحد يبدو واضحا: وهو أن كول ما كان ليكتفي بملاحقة حلول قصيرة الأمد أو تحظى بالشعبية محليا. بل كان ليعكف بدلا من ذلك على فهم هذه التحديات وتأثيرها على النظام الأوروبي الذي كانت ألمانيا (ولا تزال) مستفيداً رئيسياً منه. وكان ليحرص على دمج أي استجابة سياسية في رؤيته الطويلة الأمد لمستقبل ألمانيا وأوروبا.
بفضل هذه الخاصية الدالة على الحنكة السياسية، وليس فقط لأنه ساعد في إعادة توحيد شطري ألمانيا، يستحق كول أن نتذكره دوما وأن نحزن لرحيله.

مدير المعهد الألماني للشؤون

الدولية والأمنية في برلين سابقاً.