روبرت سكيدلسكي
«طَفَح الكيل»، هكذا أعلنت رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي بعد الهجمة الإرهابية على جسر لندن. والآن بات من الواضح أن ما يقرب من نصف مَن أدلوا بأصواتهم في الانتخابات العامة في المملكة المتحدة في الثامن من يونيو لم يعد بوسعهم أن يتحملوا المزيد من تيريزا ماي، التي محيت أغلبيتها البرلمانية المحافظة في الانتخابات، مما أنتج برلمانا معلقا (بدون أغلبية لأي حزب). وسواء نالوا كفايتهم من المهاجرين أو التقشف، فمن المؤكد أن الناخبين البريطانيين نالوا القدر الكافي من كثير.
بيد أن الانتخابات تركت بريطانيا في حالة مربكة من الانقسام، في العام الفائت، أو حتى الاستفتاء على الخروج من عضوية الاتحاد الأوروبي بانقسام بين الراغبين في الرحيل والراغبين في البقاء، مع تقدم الراغبين في الخروج بفارق ضئيل. ثم أضافت الانتخابات العامة هذا العام فوق كل هذا انقساماً أكثر تقليدية بين اليسار واليمين، مع استفادة حزب العمال المنبعث من جديد من استياء الناخبين من تخفيضات ميزانية المحافظين.
ولكي نرى التضاريس السياسية الناجمة عن كل هذا، فعلينا أن نتخيل طاولة ذات أربعة مقاعد، إذ يشغل المقاعد الأربعة أنصار البقاء وخفض الميزانية؛ أنصار البقاء والتوسع الاقتصادي؛ أنصار الخروج وخفض الميزانية؛ وأنصار الخروج والتوسع الاقتصادي. ولا تشكل الأرباع الأربعة نصفين متماسكين، ولهذا ليس من الممكن أن نخمن ماذا يعتقد الناخبون أنهم يدلون بأصواتهم لهذا السبب أو ذاك.
ولكن من الممكن أن نميز ماذا يرفض الناخبون. وينطوي الأمر على نوعين من الضحايا. الأول هو التقشف، الذي أشار حتى المحافظون إلى اعتزامهم التخلي عنه. كان خفض الإنفاق العام لضبط الموازنة قائما على نظرية خاطئة وفشل في الممارسة العملية. وكان المؤشر الأكثر وضوحا عجز وزير الخزانة جورج أوزبورن في الفترة من 2010 إلى 2016 عن تحقيق أي من أهداف ميزانيته. إذ كان المفترض أن يختفي العجز تدريجيا بحلول العام 2015، ثم بحلول العام 2017، ثم في الفترة من 2020 إلى 2021. والآن لن تلتزم أي حكومة بأي تاريخ على الإطلاق.
استندت الأهداف إلى فكرة مفادها أن أي برنامج «جدير بالثقة» لخفض العجز لابد أن يعمل على توليد القدر الكافي من ثقة عالَم الأعمال للتغلب على التأثيرات الموهِنة الناجمة عن التخفيضات ذاتها على الأنشطة. ويرى بعض المراقبين أن الأهداف لم تكن قَط جديرة بالثقة بالقدر الكافي. والحقيقة أنها ما كانت لتستحق القدر الكافي من الثقة أبدا: فمن غير الممكن أن ينخفض العجز ما لم يسجل الاقتصاد نموا ملموسا، كما تعمل تخفيضات الميزانية، الحقيقية والمتوقعة، على عرقلة النمو. ويشير الإجماع الآن إلى أن التقشف تسبب في تأخير التعافي لمدة ثلاث سنوات تقريباً، مما أدى إلى إضعاف الأرباح الحقيقية وإلحاق الضرر بشكل ملموس بالخدمات العامة مثل الحكم المحلي، والرعاية الصحية، والتعليم.
وعلى هذا، نتوقع التخلي عن الهوس السخيف بضبط الموازنة. ومن الآن فصاعداً، سوف يُترَك العجز لكي يتكيف وفقا لحالة الاقتصاد.
أما الضحية الثانية فهي الهجرة غير المقيدة من الاتحاد الأوروبي. كانت مطالبة أنصار الخروج بفرض «السيطرة على حدودنا» موجهة ضد التدفق غير المنضبط للمهاجرين لأسباب اقتصادية من أوروبا الشرقية. ولابد من تلبية هذا الطلب على نحو أو آخر.
كانت الهجرة داخل أوروبا ضئيلة للغاية عندما كان الاتحاد الأوروبي أوروبيا غربيا في الأساس. وقد تغير هذا عندما بدأ الاتحاد الأوروبي في إدماج الدول الشيوعية السابقة ذات الأجور المنخفضة. وساعدت الهجرة التي أعقبت ذلك في تخفيف حدة نقص اليد العاملة في الدول المضيفة مثل المملكة المتحدة وألمانيا، وزيادة مكاسب المهاجرين أنفسهم. ولكن مثل هذه الفوائد لا تنطبق على الهجرة غير المقيدة.
تشير الدراسات التي أجراها جورج بورجاس من جامعة هارفارد ودراسات أخرى إلى أن صافي الهجرة يقلل من أجور العمال المحليين المتنافسين. وتُظهِر أكثر دراسات بورجاس شهرة التأثير الموهن الناجم عن الهجرة الجماعية من كوبا إلى ميامي في العام 1980 ــ على أجور الطبقة العاملة المحلية.
الواقع أن هذه المخاوف شكلت لفترة طويلة الأساس لإصرار الدول ذات السيادة على الحق في السيطرة على الهجرة. وتتعزز الحجة لصالح السيطرة عندما يكون لدى أغلب الدول المضيفة فائضاً في القوى العاملة، كما كانت الحال في أغلب دول أوروبا الغربية منذ أزمة 2008. ويشكل تأييد الخروج البريطاني في الأساس المطالبة باستعادة السيادة على حدود المملكة المتحدة.
يتلخص جوهر القضية في الشرعية السياسية. فحتى العصر الحديث، كانت الأسواق محلية إلى حد كبير، وكانت محمية بشدة ضد الغرباء، حتى من المدن المجاورة. ولم تتحقق الأسواق الوطنية إلا مع ظهور الدول الحديثة. غير أن الحركة غير المقيدة للبضائع ورؤوس الأموال والقوى العاملة داخل الدول ذات السيادة لم تصبح في حكم الإمكان إلا بعد استيفاء شرطين: نمو الهوية الوطنية وظهور سلطات وطنية قادة على توفير الأمن في مواجهة الشدائد.
ولا يفي الاتحاد الأوروبي بأي من الشرطين. فشعوبه مواطنون في دولهم القومية أولا. ولا يمكن إعادة إنتاج العقد بين المواطنين والدول والذي تعتمد عليه الاقتصادات الوطنية على المستوى الأوروبي، لأنه لا توجد دولة أوروبية يمكن إبرام الاتفاق معها. والواقع أن إصرار الاتحاد الأوروبي على حرية حركة العمال كشرط لعضوية غير الدول أمر سابق لأوانه في أحسن الأحوال. وسوف تحتاج إلى أن تكون مؤهلة، ليس فقط كجزء من اتفاق خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي، بل وأيضا لعموم الاتحاد الأوروبي.
كيف إذن قد يكون تأثير النتائج الهزيلة للانتخابات العامة البريطانية؟ لن تدوم تيريزا ماي طويلا في منصب رئيسة الوزراء. وقد أطلق عليها أوزبورن وصف «امرأة ميتة تمشي على الأرض» (بطبيعة الحال، بدون الاعتراف بأن سياسات التقشف التي فرضها ساعدت في ختم زوالها).
الواقع أن النتيجة الأكثر منطقية في الوقت الحاضر مجهضة سياسيا منذ البداية: حكومة ائتلافية محافظة، حيث يتولى بوريس جونسون (على سبيل المثال) منصب رئيس الوزراء ويعمل جيريمي كوربين نائبا له. وقد تتبنى الحكومة برنامج من عامين يتألف من بندين فقط: إبرام اتفاق الخروج البريطاني «الناعم» مع الاتحاد الأوروبي وبرنامج استثمار عام كبير في الإسكان، والبنية الأساسية، والطاقة الخضراء.
كان الأساس المنطقي لبرنامج الاستثمار هو أن ارتفاع المد من شأنه أن يرفع كل القوارب. وسوف تتمثل فائدة إضافية مترتبة على ازدهار الاقتصاد في تراجع العداء للهجرة، وتسهيل مهمة بريطانيا في التفاوض على تنظيم معقول لتدفقات المهاجرين.
ومن يدري: إذا أجبرت المفاوضات الاتحاد الأوروبي على إعادة صياغة التزامه بحرية حركة العمالة، فربما يتبين أن الخروج البريطاني مسألة أقل اتصالا بانسحاب المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي من ارتباطه بإصلاح شروط العضوية الأوروبية.
عضو مجلس اللوردات البريطاني، وأستاذ
الاقتصاد السياسي الفخري في جامعة وارويك.