علي ناجي الرعوي
الكارثة الإنسانية التي يعيشها اليمنيون اليوم تتجاوز تلك الكارثة التي عاشها آباؤهم العام 1934 والذي يعرف بـ(عام الجوع) عندما مات الآلاف من الأهالي بسبب حالة الجفاف والتي لم تكن من صنع البشر فالكوليرا التي تحصد أرواحهم في اللحظة الراهنة تبدو من كل الاتجاهات أكبر من ميكروب وأفظع من جائحة وبائية.. ولو كانت مجرد جائحة وحسب لكان شأنها أقل وطأة.. فالمشاهد الجماعية كما صورتها قصيدة الكوليرا لنازك الملائكة منتصف القرن الفائت لا مكان لها في الصورة الشاملة للجائحة التي تزهق الأرواح على نحو جماعي في اليمن.. فخلال أسابيع معدودة وصل عدد المصابين بوباء الكوليرا بحسب الإحصائيات الرسمية لأكثر من نصف مليون يمني ومع انهيار القطاع الصحي فإن العدد مرشح للارتفاع طالما بقي الوباء يمتلك الفرصة الكاملة للإحاطة بالمجتمع كله.
لماذا يفترض أن يكون أبناء اليمن ضحايا الحرب والكوليرا والجوع إلى هذا الحد القاسي ؟ ولماذا لم يثر هذا المونولوج الجنائزي المهيب لضحايا الكوليرا الضمير العربي الذي لم يرف له جفن من أجل أطفال اليمن الذين يموتون وتموت أمهاتهم وقراهم ومدنهم على مرأى ومسمع هذا الضمير المصاب بالتبلد منذ ألف عام وأكثر فيما هو يرى الفيلسوف الفرنسي (اليهودي) آلان فينكيلكروت يملأ بالصراخ والعويل شاشات القنوات الفضائية لأن شظية خدشت طفلا إسرائيليا في عسقلان ؟
لقد اختارت جائحة الكوليرا اليمن الغارقة في عذاباتها ليس من أجل إبعاد أصابع الاتهام عن الرئيس هادي التي تقاتل عشر دول عربية من أجل استعادة شرعيته بعد أن اتخذ الرجل موقفا يظهر من خلاله وكأنه الذي لم يسمع شيئا عن الكوليرا التي تفتك بمن يفترض أنهم مواطنيه بل إن هذه الجائحة ربما أرادت أن تكشف أمراً ظل غائباً عن اليمنيين الذين لم يكن أحد فيهم يتوقع مثل هذا الخذلان العربي تجاه بلد يقال عنه إنه أصل العرب حيث أدرك أبناء اليمن وفي هذه اللحظة الحزينة أن موتهم لا يعني شيئاً لأولئك العرب الذين لا يبدون أي قدر من الانفعال يتناسب مع المستوى الخطير للجائحة، بل إن بعضهم يرغب في رؤية المزيد من الجنازات وفي أن تبلغ رائحة الضحايا أبعد مدى وهم جاهزون على الدوام لتحويل الكارثة لمادة إعلامية يتحدثون عنها في وسائل إعلامهم بصورة يظهر فيها جلال الموت الذي تفصح عنه الأرقام للضحايا الذين ماتوا أو سقطوا عن طريق الخطأ.
يمكن القول دون تحفظ إن أمين عام الجامعة العربية وفريقه لم يخرج حتى الآن ليتحدث عن الكوليرا التي اجتاحت بلداً هو في الواقع أحد البلدان المؤسسة لهذه المنظمة التي يقف على رأسها حيث لم يعد هذا الأمين يعرف عن ما يجري في اليمن إلى درجة تاركا بلدا عربيا يحترق خلف ظهره وعلى الطريقة نفسها في تعامله مع جائحة الكوليرا التي تحيط باليمنيين من كل جانب ليغدو هذا التخاذل هو العجينة الرطبة التي تتغذى عليها الكوليرا الصغيرة والكبيرة وسيتذكر التاريخ عندما يكتب بقدر مستحق من الروية والانتباه أن العرب قد فتحوا صندوق (باندورا) كما في أسطورة هزيود في (الأعمال والأيام) فخرجت منها كل الشياطين التي تحوم اليوم في أرجاء الأرض اليمنية، وكأن تلك الشياطين قد أوكلت إليها مهمة هزيمة الكوليرا والحرب وإيقاف المسلحين والسلاح وتحويل الجهود الحربية الى جهود إغاثية.
يفتقر اليمن راهنا إلى كل وسائل الحماية الذاتية، ولذلك فإن الكوليرا ستستمر في الدوران وستسحب مزيداً من اليمنيين إلى دائرتها وكعادة الكوليرا فإن المصاب ينقل العدوى إلى الآخرين بطريقة هندسية وفي لحظة ما سيكون عدد الذين يفارقون الحياة تحت ضربات الكوليرا أكثر من الذين ستقتلهم الحرب، وقد تصبح الكوليرا هي سيدة الجبهات التي تجتاح الخنادق وتدفع المسلحين إلى ترك أسلحتهم والهرب من الموجات القاتلة فالسرعة التي تخترقها الكوليرا للمحافظات اليمنية تشي بصورة لافته إلى أنه لن يمضي وقت طويل حتى يجتاح هذا الوباء كل الجزيرة العربية.
في الوقت الذي تواصل فيه الآلة العسكرية حركتها الميدانية غير مكترثة بالكوليرا وبالنداءات والتحذيرات التي تطلقها المنظمات الدولية من أجل الحصول على تمويلات الدول المانحة في هذا الوقت يجب التذكير ببعض ما أشرنا إليه في مقالات سابقة من أن خطوات تقسيم اليمن جارية وآخر مظاهر هذا المخطط التقسيمي هي تلك الاندفاعات التي يشهدها الجنوب اليمني والتي تبين بوضوح أن ما تم التخطيط له في عاصفة الحزم، قد جاء متعارضا مع معطيات الأحداث وبالتالي فإن من مصلحة الجميع الإسراع بنجدة اليمنيين من كابوس الحرب والكوليرا قبل أن تتحول اليمن إلى مشكلة خليجية ومعضلة على بوابة الجزيرة العربية تجعل من هذه الجزيرة برمتها تدفع تكاليف باهظة من أمنها القومي ورفاهية مجتمعاتها نتيجة عدم إلمامها بخطورة المسألة اليمنية واستخفافها بحاجة اليمنيين للاستقرار القابل للحياة.
كاتب يمني