فكرة ما بعد الثورة

مقالات رأي و تحليلات الأربعاء ٠٥/يوليو/٢٠١٧ ٠٤:٤٥ ص

برنار هنري ليفي

كلا، الناخبون الفرنسيون ليسوا مثيرين للغثيان، كما أعلن هنري جوينو البائس المثير للشفقة يوم الاثنين بعد خسارته مقعده في الجمعية الوطنية. ولم يعد من الممكن الآن استخدام حجة مفادها أن البقاء في المنزل في وقت الاقتراع يفيد الجبهة الوطنية، كما قيل لنا طوال ثلاثين عاما، لتفسير ارتفاع التأييد لحزب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون السياسي الجديد، الجمهورية إلى الأمام! ومن المؤكد أن ماكرون لا يبدأ حياة مهنية دكتاتورية في التاسعة والثلاثين من عمره، كما لم يفعل شارل ديجول في السابعة والستين من عمره.

باختصار، لم نسمع أي شيء تقريبا في الأيام الأخيرة القليلة يفسر الفوز الساحق الذي بدأ مع الجولة الأولى من الانتخابات التشريعية يوم الأحد. وكان شغب الأنباء منذ يوم الأحد مزعجا للغاية لأولئك الذين فضلوا لسنوات ألا يسمعوا أي شيء.

ما الذي يحدث إذن؟ وكيف تمكن ماكرون، المبتدئ السياسي الذي يبدو من المحتم أن يترأس ألفا من الائتلافات الهشة، من تسجيل الإنجاز غير المسبوق المتمثل في توجيه نحو 400 نائب إلى مقاعدهم في الجمعية الوطنية التي يبلغ عدد مقاعدها 577 مقعدا، تحت راية ما كان قبل بضعة أشهر حزبا يتألف من رجل واحد تقريبا؟
أولا، هناك بطبيعة الحال عنصر البراعة، وهي السمة التي وصفتها هانا أرندت في تعليقها على كتاب أرسطو «الأخلاق النيقوماخية»، والتي يتقاسمها الفنانون والساسة. وثانيا، هناك هزالة الشعبويين (مارين لوبان على اليمين، وجان لوك ميلينشون على اليسار) الذين وجدوا أنفسهم وقد جرفهم إلى الأسفل شعار «فرنسا أولا» الذي أطلقوه.
ولكن العامل الرئيسي وراء نجاح ماكرون في اعتقادي هو التغيير البنيوي الذي وصفته قبل عشر سنوات في كتاب «وحيد في زمن عصيب». والآن بلغ ذلك التغيير أوجه.
بدأ كل شيء مع اندلاع الثورة الفرنسية. بعبارة أكثر دقة، كل شيء يعود إلى الاختراع الفرنسي المتمثل في مفهوم «الثورة»، والذي سرعان ما ارتفع إلى قمة فكرنا السياسي، وكأنه نجم ثابت، مع بقية النجوم التي ترتب نفسها من حوله. وقد تجمع أولئك الذين يميلون نحو المنظور الثوري على اليسار، وعلى اليمين تجمع أولئك الذين ينظرون إلى الثورة باعتبارها تهديدا دائما ويعملون على التصدي لها.
ولكن في غضون فترة وجيزة من الزمن بين الثورة الصينية في العام 1949 والكابوس الكمبودي في الفترة 1975-1979، حدث اكتشاف مهم: فكلما كانت الثورة أكثر راديكالية، كلما أصبحت أكثر دموية وهمجية. والآن بات من الواضح أن الثورة لم تكن صعبة أو بعيدة المنال أو مستحيلة فحسب، بل كانت أيضا بغيضة بكل ما في الكلمة من معنى. فقد ازداد النجم الثابت قتامة ثم تحول إلى ثقب أسود ابتلع ضوءه وأضواء النجوم الأقل شأنا من حوله. وعند نقطة معينة، سوف ينهار النظام السياسي بأسره.
نحن الآن عند تلك النقطة. وهذه ليست المرة الأولى التي يصبح فيها الانقسام بين اليسار واليمين بهذه الضبابية في فرنسا. فقد حدث ذلك بشكل أو آخر في فالمي، في زمن مسألة دريفوس، أثناء حكومة فيشي، وحول قضية الاستعمار.
ولكن في حقول القتل البعيدة في كمبوديا قبل أربعين عاما سُحِقَ العقل والخيال الثوريين وأحيلا إلى التقاعد. وكانت الصدمة المطولة، والانفجار البطيء والتأثير الانفجاري الذي صاحبه، والإبطال المنهجي المنظم للتقسيمات، والمنازعات، وفي نهاية المطاف الدلالات والمسميات التي شكلت «الاستثناء الفرنسي»، هي التي وضعت انتصارات ماكرون حدا لها.
وعلى الفور ينشأ ألف سؤال: كيف يتصرف أولئك الذين حُمِلوا إلى السلطة حملا تحت راية ماكرون؟ وإذا أسكرتهم خمر النصر، فمن أي اتجاه، ومتى، وعلى يد من ستأتي الصفعة اللازمة لإفاقتهم؟ وكيف ومتى وأين تظهر أثقال الموازنة التي لا غنى عنها لكي يتسنى للديمقراطية أداء وظيفتها على النحو اللائق؟
وهناك المزيد من التساؤلات. فإلى أين يتجه الغرب؟ وباستخدام أي بوصلة، ونحو أي أفق؟ كانت عبارة «في الوقت نفسه» -الموازنة بين الحقائق والأفكار المتعارضة- من البنود الثابتة في دليل ماكرون الاسترشادي. ولكن إلى متى قد يظل مبدأ «في الوقت نفسه» كافيا كسياسة؟
إذا كنا حقا في نهاية الحقبة التاريخية التي بدأت في العام 1789، فهل نعود إلى عصر التنوير؟ أو إلى اللحظة التي سبقت التنوير عندما استقر وترسخ حس جديد بالحقوق الطبيعية والمثل الجمهورية المصاحبة؟ وهل نعيد كتابة رواية وحش اللوثيان البحري، أو ما يعادل نفس الشيء، وهو سلام ويستفاليا، من دون الاضطرار هذه المرة إلى المرور عبر التطرف المأساوي الذي اجتاح أوروبا واستحثاث أو إشعال شرارة حروب عالمية؟
أياً كان ما يخبئ لنا المستقبل، فإن الحقيقة المركزية واضحة تمام الوضوح: فقد رأى ماكرون ما لم يتمكن أسلافه إلا من لمحه لمحا. فهو الأداة أو الهيئة المغايرة لحدث طويل الأمد تتوالى فصوله أمام أعيننا.
والآن تقع على عاتقه مهمة إعادة البناء على ساحة مهدمة خربة والعمل على ضمان عدم تسبب نهاية طريقة بعينها في تصور السياسات في جلب نهاية السياسة ذاتها. ويتحتم على ماكرون، جنبا إلى جنب مع أولئك الذين انتخبوه وأولئك الذين صوتوا ضده، أو أولئك الذين امتنعوا عن التصويت، القيام بأفضل ما يمكن أن يقوم به المرء في الأوقات العصيبة: تخيل، واختراع، وتجسيد فن «البدايات» الذي تعتقد أرندت أنه القلب النابض للعمل العام.

أحد مؤسسي حركة فلاسفة جدد