عرض - أحمد بن سعيد الجرداني
الإسلام يسع جميع القضايا ويحل مختلف النوازل بدءاً من الإنسان نفسه ومروراً بواقعه، لذلك أولى اهتمامه بالنفس الإنسانية وإصلاحها أيما اهتمام إذ النفس بتزكيتها والارتقاء بطبيعتها تكون أقرب استعداداً لتلقي أوامر ربها والنزول إلى حكمه «وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا» وبهذا تظهر ميزة الحضارة الإيمانية الشاملة لانطلاقها من معرفة الإنسان لخالقه وتطبيقه لتعاليمه، وحينما تظهر آثار الإيمان في الإنسان يعم الخير بين البشرية ويشيع الحب والتضامن بينهم وتنتزع من قلوبهم البغضاء والأحقاد، وينطلق بذلك الإسلام إلى غاياته وأهدافه لبناء مجتمعات متماسكة قوية يحنو كبيرها علـى صغيرها ويعطف غنيها على فقيرها.
وحول هذا الموضوع نواصل عرض هذا البحث بتصرف والذي أعده المدير العام للوعظ والإرشاد الشيخ ناصر بن يوسف العزري والذي قدمه لمجمع الفقه الإسلامي في الدورة الثامنة عشرة.
جواز تقديم الزكاة قبل وقتها
وحول جواز تقديم الزكاة قبل وقتها يقول الباحث: هو القول المشهور عند أصحابنا الإباضية -كما سيأتي- وإن ذكر بعضهم أن الأشهر بخلاف ذلك. فقد نقل غير واحد من أصحابنا أن أكثر أهل العلم على المنع من تقديم الزكاة.
قال الشيخ الكندي: «ومن غيره، من قال: من قدم زكاة الورق قبل محل زكاته، أنه لا تسقط عنه، فقد قيل ذلك وهو معنى أكثر قول أهل العلم.
وقد قيل: إنه يجزئه إذا كان قبل محل زكاته بشهر أو شهرين. ومعنا أنه لا يجوز لأنه فريضة وجبت عليه ولم تؤد قبل وجوبها، ولا يؤدي الفرائض إلا بعد وجوبها، ويوم أدى ذلك لم تكن فريضة لزمته، ثم لزمته فلم يؤدها».
ونقل الخلاف عنهم في تعجيل الزكاة الإمام أبو سعيد الكدمي. قال الشيخ ابن عبيدان: قال الإمام أبو سعيد الكدمي- رحمه الله: «معي أنه يخرج في معاني قول أصحابنا معنى الاختلاف في تعجيل أداء الزكاة قبل وجوبها: فقال من قال: لا يجوز ذلك، وإن فعل لم يجزه بحال. وقال من قال: يجزيه ذلك إذا فعل ذلك قبل حلوله بالشهر والشهرين ورأى وقت حاجته. وقال من قال: يجزيه إذا كان في يده من المال ما تجب فيه الزكاة وأدي عنه في سنته تلك، وإن أدي قبل دخول السنة لم يجزه ذلك على حال، ولا يعلم في هذا الفصل اختلافاً بينهم».
قال شارحه الشيخ محمد بن يوسف أطفيش: (وفي الحديث) الذي هو: «أنه صلى الله عليه وسلم بعث عمر لقبض الزكاة فأتى العباس فمنعه، فرجع فقال: إن عمك منع زكاة ماله، فقال: إن عمي لم يمنعها ولكن احتجنا فعجلنا زكاة عامين» (ما يدل على جوازه): أي جواز التعجيل (بأكثر من ذلك) المذكور من شهر وضعفه، وهو أن تعجل قبل دخول أول الحول، وظاهر المصنف تجويز ذلك من الحديث، ولو لم يكن بإذن الإمام (فاطلب محله) قد أحضرته لك».
وحكى الخلاف في هذه المسألة الشيخ السالمي في معارج الآمال حيث قال: «واختلفوا في من أخرجها قبل الوجوب وقبل تمام الحول فرخص فيه بعض أصحابنا وسعيد بن جبير والزهري وإبراهيم النخعي والأوزاعي والشافعي وابن حنبل وإسحاق وأبو عبيد وأبو ثور وأصحاب الرأي. وقال بعض أصحابنا والحسن البصري وابن المنذر: من زكى قبل الوقت أعاد كالصلاة».
وعدم جواز التعجيل قبل دخول السنة هو ما يفهم من كلام الشيخ السالمي في المعارج حيث ذكر هذا القول وسكت عنه ولم يتعقبه بشيء.
قال في «المعارج»: «وإن أدي قبل السنة لم يجزه ذلك على حال، وهو المشهور عن الشافعي وفيه عند أصحابه وجهان.
ويؤيد مذهبه هذا تعقبه لكلام الحنفية حيث أورد رأيهم في المسألة فقال: «وأجازت الحنفية تعجيلها لسنتين بعد حصول النصاب لما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «تسلفت من العباس صدقة عامين». وتعقبهم بقوله: «وأجيب بأنه تسلفها بدفعتين».
هذا، وقد حمل بعض أصحابنا سبب الخلاف في هذه المسألة الخلاف في الزكاة هل هي عبادة أو حق للمساكين؟ فمن قال إنها عبادة لم يجوّز إخراجها قبل الوقت، ومن شبهها بالحقوق أجاز إخراجها قبل الوقت.
قال الشيخ الجيطالي: «وسبب الخلاف هل هي عبادة أو حق للمساكين؟ فمن قال عبادة شبهها بالصلاة لم يجز إخراجها قبل الوقت، ومن شبهها بالحقوق الواجبة المؤجلة أجاز إخراجها قبل الأجل على جهة التطوع». والقول بأنها حق للمساكين هو الرأي المختار عند الشيخ القطب.
قال الشيخ القطب بعد ذكره للخلاف المذكور آنفاً: «بناء علـى أنـها حق للمساكين فيجوز بدخول أولها وكونها حقاً لهم هو الصحيح عندنا».
وبالنظر في الزكاة نجد أن المعنيين ظاهران فيها لا ينفكان ولهذا قال الشيخ السالمي: «إنها جامعة للمعنيين فلا يمكن إلغاء واحد منهما».
ويظهر من كلام الشيخ السالمي أنه لا يرى جواز التقديم مع أن كلامه في جواباته بخلاف ذلك.
قال الشيخ السالمي: «ثم إن السبب في الوجوب هو المال النامي بكونه حولياً فلا يجوز التقديم على الحول كما لا يجوز التقديم على أصل النصاب، وأيضاً فإن الأداء إسقاط للواجب عن ذمته ولا إسقاط قبل الوجوب فصار كأداء الصلاة قبل الوقت».
وقال في الجوابات في باب الكفارات: وللمرخصين أن يقولوا هو مقيس على تقديم الزكاة قبل وجوبها وقد وردت السنة بجواز ذلك.
قلنا ذلك رخصة والرخص لا يقاس عليها بيانه أن القاعدة في الأشياء الدينية لا يجزى تقديمها قبل وقت وجوبها كالصلاة والحج والصيام وأشباههما ثم خرجت الزكاة والوضوء فجاز تقديمها بدليل خاص في كل واحد منهما ولا يقاس غيرهما عليهما». وجواز تقديم الزكاة هو القول الأشهر عند أصحابنا لحاجة الفقير في ذلك، وقد نقل ذلك عنهم غير واحد منهم.
شرائط الزكاة وفورية إخراجها
وعن شرائط الزكاة وفورية إخراجها يستدل لنا الشيخ ناصر العزري بدليل أهل العلم قائلاً: من شرائط الزكاة حولان الحول فلا تجب الزكاة في المال حتى يحول عليه حول كامل، وما لم يحل الحول فلا يطالب الإنسان بإخراجها، فالقول بتقديم الزكاة يخالف هذا الشرط.
فأنت ترى أن الأصل إخراج الزكاة في وقتها من غير تقديم أو تأخير، والتقديم والتأخير أمر عارض إن عرض على الزكاة لحاجة من الحاجات الضرورية جاز ذلك كغيرها من العبادات.
فإذا تبيّن لك ذلك علمت أن الأقرب إلى الصواب في هذه المسألة قول من قال بوجوب الفورية في أداء الزكاة ودونك دليل القائلين بها:
أولاً: قوله تعالى: «وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ».
يقول القرطبي في تفسيرها: «يدل على وجوب تعجيل أداء الزكاة، ولا يجوز تأخيرها أصلاً، وكذلك سائر العبادات إذا تعين وقتها».
قال الآلوسي: «واستدل الكيا بقوله تعالى: {وَأَنْفِقُواْ} الخ على وجوب إخراج الزكاة على الفور ومنع تأخيرها».