الإنفاق في سبيل الله والفوائد منه على المجتمع والإنسانية (3 - 4) مسـاعـــد المفتـــي: منهـــج الإســلام اعتـــدال ووسطية فلا إسراف ولا تقتير

بلادنا الأحد ١١/يونيو/٢٠١٧ ٠٤:٢٠ ص
الإنفاق في سبيل الله والفوائد منه على المجتمع والإنسانية (3 - 4)

مسـاعـــد المفتـــي: 
منهـــج الإســلام اعتـــدال ووسطية فلا إسراف ولا تقتير

إعداد - أحمد بن سعيد الجرداني

أخي القارئ الكريم أختي القارئة الكريمة..

في هذا اليوم المبارك من هذا الشهر العظيم نواصل الحديث عن «الإنفاق» في الرحلة التي يرافقنا فيها مساعد المفتي العام للسلطنة فضيلة الشيخ د.كهلان بن نبهان الخروصي، وذلك من خلال البرنامج الإذاعي «دين الرحمة» الذي كان يبث في الإذاعة العمانية وهو من إعداد الشيخ د.سيف بن سالم الهادي وهذا الموضوع أُذيع قبل سنوات مضت، ونحن في هذا الصدد اخترنا لكم هذه القيمة الإسلامية الرائعة لكي نحقق منها الكثير من الفوائد، لأنفسنا وللمجتمع وللتقرب من الله سبحانه وتعالى، لأن موضوع الإنفاق من الأمور المهمة في هذا الدين التي تتصل بقيمه ومبادئه، كما تتصل بأحكامه وبأصول شريعته فقهاً وعملاً، وتظهر آثاره وتتجلى حكَمه في واقع حياة الناس أفراداً وجماعات، ولذلك كانت لنا هذه الوقفة مع موضوع الإنفاق.

شواهد من السلف الصالح

وفي هذا الموضوع وحول السلف الصالح في الإنفاق يقـــول فضيلـــة الشيخ الخروصي: كان أبو طلحة أكثر الأنصار مالاً بالمدينة من نخل وزرع، وكانت له مزرعة هي من أحب ماله إليه اسمها بيرحاء، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يدخلها ويشرب من مائها، لأنها كانت مستقبلة مسجده -صلى الله عليه وسلم- قال أنس -راوي الحديث: لما نزلت هذه الآية {لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ} قال أبو طلحة: إن أحب أموالي إليَّ بيرحاء، وإنها لصدقة لله أرجو برها وذخرها عند الله، فضعهـــا يا رسول الله حيث شئت، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم: «بخٍ بخٍ، ذلك مالٌ رائح، يروح بصاحبه إلى الجنة، وقد سمعتُ ما قلتَ، وأنا أرى أن تجعلها في الأقربين» قال أبو طلحة: أفعل يا رسول الله، فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه.
هكذا كانت استجابة هؤلاء لتلكم النداءات الربانية فور نزول هذه الآية: {لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ} اختار أحب أمواله إليه، وإذا برسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقبل منه صدقته تلك ويبشره بالجنة، لا ريب لا مقارنة بين مزرعةٍ حبيبةٍ إلى النفس يدفعهــا صاحبها صدقةً لوجه الله تعالى لينال بها بعد ذلك الجنان العالية، لكن هذا الإخلاص وهذا التوجه وهذه الطاعة. هــذا الإقبال والمبــادرة هي التـــي أهلـــت أبا طلحـــة لكـــي يبشره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بهذه البشارة «بخٍ بخ، ذلك مالٌ رائحٌ، يروح بصاحبه إلى الجنة».
وهكذا نحن نبشر كل من تجود نفسه ويسخو بما في يده مما يحب فيجعله صدقةً لله عز وجل ينتفع بها أقاربه، ينتفع منها المجتمع فإن هذه البشارة لا ريب بالإخلاص لله سبحانه وتعالى سوف تطاله، وهكذا كان من الجميع. فنحن نعرف قصة عمر بن الخطاب في الأحباس التي أوقفها، وكذلك إنفاق أبي بكر الصديق، وهكذا كان صحابة رسول الله، السيدة عائشة كانت تتصدق بالأموال الطائلة ويقال إن في ثوبها خمسين رقعة.

الكرم والإسراف

يقـــول فضيلـــة الشيخ د.كهلان: الإنفــاق الـــذي نتحـــدث عنه لابد أن يكون بعيداً عن الإسراف كما أنه لابـــد أن يكـــون بعيداً عن التقتير، فالله تعالى يقول: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً}، هذا هو منهج الإسلام هو اعتدالٌ ووسطيةٌ حتى في أمرٍ حبيبٍ إلى الله سبحانه وتعالى فلا إسراف ولا تقتير.

ويضيف فضيلة الشيخ قائلاً: وجوه الإنفاق كثيرة وهي غير محصورة ولا يمكن حصرها، لأن الناس يتفقدون حاجات المجتمع، والمسلم ينبغي له أن يتحسس احتياجات المجتمع فيسعى لملء هذه الاحتياجات قدر المستطاع بما تجود به نفسه، وبالتالي لا ينبغي أن يعتب بعضنا على بعض في اختيارنا لوجوهٍ من وجوه البر والصدقات التي يحتاج إليها المجتمع بحيث يطلب الواحد من أخيه أن يكون إنفاقه في وجهٍ واحدٍ يرى هو أنه الأفضل والأصوب -ونحن نحمله على ذلك- قد يرى هذا غير ذلك، فلا حرج في ذلك، ولا ينبغي أن يكون هناك عتبٌ، وبخاصة في فضائل الأعمال، بل ينبغي أن تبنى على السعة، فهذا ينفق مثلاً في بناء المساجد وتعميرها، وهذا ينفق في تعليم طلبة العلم، وهذا ينفق في خدمة كتاب الله عز وجل، وذلك في إصلاح الطرقات، وهذا في المستشفيات وعلاج المرضى، وهذا في سائر مناحي ووجوه متطلبات المجتمع التي تحتاج إلى إنفاق.

ما يغضب الله سبحانه وتعالى

وحول موضوع بعض المؤسسات التي تنفق أموالاً في أمورٍ ليست ذات جدوى أي لا تحقق نفعاً للمجتمع، كأن يكون إنفاقاً مثلاً على حفلةٍ ساهرةٍ لا تحقق للحاضرين ولا تحقق للمجتمع شيئاً من النفع، يقول فضيلة الشيخ د.كهلان: لا، هذا يغضب الله سبحانه وتعالى، وقد يُعرِّض صاحبه -والعياذ بالله- لغضب ربنا تبارك وتعالى، لأن هذا من إضاعة المال، والنبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن قيل وقال، وعن إضاعة المال، فهذا مما يغضب الرب تبارك وتعالى، ولا نفع فيه لا لصاحبه ولا للمجتمع، وإنما فيه -والعياذ بالله- محاربة لله ورسوله، وفيه حمل للأوزار، فينبغي للمسلم أن يتجرد من ذلك، وأن يُخلص قصده لله عز وجل، وأن يختار المواضع التي ترضي الرب تبارك وتعالى.

الإنفاق في الوجوه الأخرى

وعن سؤال يقول: هناك من يظن -إذا كان هذا الظن صحيحاً- أن الإنفاق على المسجد مثلاً أو الإنفاق على الأمور التعبدية فيه أجرٌ أكثر من الإنفاق على الأمور الأخرى؟ أجاب فضية الشيخ الدكتور مساعد المفتي العام للسلطنة: لا ليس ذلك باطراد، لا يظن ظان بأن الإنفاق في هذه الوجوه التي -كما قلتُ- وجه التعبد فيها ظاهر هو أولى وآجر عند الله تعالى من الإنفاق في الوجوه الأخرى، لأن ذلك يختلف باختلاف الأحوال، إذا كانت حاجة المجتمع مثلاً إلى إنشاء مدرسة فإذن الإنفاق على إنشاء مدرسة أولى من الإنفاق في بناء مساجد إذا كانت المساجد موجودة، إذا كان لا يوجد في قريةٍ من القرى مثلاً من يَصلُح أن يؤم الناس فإذن الأولى أن يُعلَّم من يمكن أن يؤم الناس، كذلك إذا كان هناك حالاتٌ من الفقراء والمحتاجين الذين هم بغير حاجةٍ إلى طعامٍ وإنما هم بحاجةٍ إلى مساكن وإلى مأوى، بل الأكثر ثواباً وأجراً إنما يكون بحسب ما يَتَحَصَّلُ منه من مصلحةٍ عامةٍ لعموم المسلمين، «الخلق كلهم عيال الله، وأحبهم إليه أنفعهم لعياله».

قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: «يا نساء المؤمنات لا تحقرن إحداكن أن تهدي لجارتها ولو كراع شاةٍ محروقة» وفي حديثٍ آخر أن رجلاً جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله أي الصدقة أعظم أجراً؟ فقال -صلى الله عليه وسلم: «أما وأبيك لتنبأن أن تَصَّدَّقَ وأنت صحيحٌ شحيحٌ تخشى الفقر وتأمل البقاء ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلانٍ كذا ولفلانٍ كذا وقد كان لفلان».

وفي سؤال لفضيلة الشيخ الذي يقول: الآن في هذا العصر الحديث هل هناك أوجهٌ سريعةٌ للإنفاق ولاكتساب الأجر من خلال عمليةٍ سهلةٍ مثلاً يستطيع الإنسان أن يحقق بها حتى ولو كان قليل المال؟
فأجاب فضيلة الشيخ د.كهلان: أحسنت، نعم هناك الكثير من الوجوه، وكما قلنا الميدان مفتوح، لكن بحمد الله تعالى لما صارت الكثير من المسؤوليات تسند إلى مؤسسات تقوم بتنظيمها وترتيبها كان ذلك أكثر سهولة للناس.
وأنا هنا مثلاً أذكر مثالاً: مشروع السهم الوقفي الذي تقوم به وزارة الأوقاف والشؤون الدينية هذا مشروع يُمكِّن حتى الفقير الذي يجد مبالغ بسيطة يمكن له -حتى ولو كان ريالاً واحداً- أن يُشارك به مع باقي الذين يشاركونَ في هذا المشروع -مشروع السهم الوقفي، لكي يكون مجموع مالهم وقفاً يُستثمر في شيءٍ من المشاريع ذات المردود المستمر، ويظل له أجر تلك النفقة الصغيرة القليلة التي نستلهمها حتى من قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الأول الذي أنصتنا إليه: «يا نساء المؤمنات لا تحقرن إحداكن أن تهدي لجارتها ولو كراع شاةٍ محرقة»، فإذن، حتى ولو كان عشرة ريالات أو كان ريالاً واحداً يمكن لمن يجد هذا الريال ويرغب في الثواب والأجر يمكن له أن يشارك في مثل هذا المشروع.
وحينما يشارك غيره بما يجدون وما يستطيعون فإن مجموع هذه الأموال سيقام بها مشروعٌ وقفيٌّ، وهو بطبيعة الحال هؤلاء الذين ساهموا أجرهم وثوابهم لهم، وريعه يذهب إلى جهةٍ من جهات البر كالفقراء والمساكين والمشاريع التي يحتاجها المجتمع مما فيها خيرٌ وصلاحٌ ظاهر، إذن هذا مثال، ومع ذلك فكما قلتُ الميدان مفتوح والمجال فسيحٌ للتنافس على الخير وفق الضوابط الشرعية.

وللموضوع بقية بإذن الله تعالى...