الإنفاق في سبيل الله والفوائد منه على المجتمع والإنسانية (2 - 4) مساعد المفتي: الإنفاق في سبيل الله من الخصال التي يظل ثوابها ممتداً

بلادنا الخميس ٠٨/يونيو/٢٠١٧ ٠٤:٥٥ ص

إعداد - أحمد بن سعيد الجرداني

أخي القارئ الكريم أختي القارئة الكريمة.. في هذا اليوم المبارك من هذا الشهر العظيم نواصل الحديث عن (الإنفاق)، حيث يرافقنا فضيلة الشيخ د. كهلان بن نبهان الخروصي مساعد المفتي العام للسلطنة، وذلك من خلال البرنامج الإذاعي دين الرحمة والذي كان يبث في الإذاعة العمانية وهو من إعداد الشيخ د. سيف بن سالم الهادي وهذا الموضوع تم إذاعته قبل سنوات مضت، ونحن في هذا الصدد اخترنا لكم هذه القيمة الإسلامية الرائعة لكي نحقق منها الكثير من الفوائد، لأنفسنا وللمجتمع والتقرب من الله سبحانه وتعالى.

لأن موضوع الإنفاق من الأمور الهامة في هذا الدين ويتصل بقيمه ومبادئه كما يتصل بأحكامه وبأصول شريعته فقهاً وعملا، وتظهر آثاره وتتجلى حكَمه في واقع حياة الناس أفراداً وجماعات؛ ولذلك كانت لنا هذه الوقفة مع موضوع الإنفاق.

الإنفاق يتصدر الصفات

موضوع الإنفاق موضوع واسع، حيث يقول فضيلة الشيخ: نجد أن الإنفاق يأتي مأموراً به في سياقات تدعو إلى التأمل والنظر، في بعض السياقات حينما تكون الدعوة إلى أهم الأعمال التي تنجي هذا العبد وتبلغه المنازل العالية في الدار الآخرة نجد أن الإنفاق يتصدر الصفات، يقول الله عز وجل: (وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ، الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)، ثم بعد ذلك ذكر بقية صفاتهم، أول ما ذكر من صفات هؤلاء المتقين الموعودين بجنةٍ عرضها السموات والأرض وبمغفرة من ربنا تبارك وتعالى الغفور الرحيم قال: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ...}. ونجد مثلاً أن الله سبحانه وتعالى يعتبر الإنفاق في وجوه البر المختلفة- وهذا مما ينبغي أن يُتأمل فيه- يعتبره قرضاً لله عز وجل يسميه هكذا، فالله تعالى يقول في كتابه (إِن تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ)، وهذا يقوله في سياق الأمر بالإنفاق (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيْراً لِّأَنفُسِكُمْ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، إِن تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعِفْهُ لَكُمْ...)، وكثيراً ما نجد هذا المعنى (مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ...).

آيات الإنفاق في سورة البقرة أكثر ما وردت وتتابعت هي في الآيات من مائتين وستين إلى مائتين وسبعين، الآية رقم مائتين وستين هي قصة إبراهيم الخليل (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)، الآن بعد هذه الآية مباشرةً يأتي الانتقال إلى الإنفاق.

أليس في هذا الانتقال دلالة على أهمية الإنفاق؟!! أي بعد هذا الموقف الذي تتجلى فيه قدرة الله سبحانه وتعالى لخليله إبراهيم-عليه السلام-بتلبية طلبه لكي يزداد طمأنينة بإيمانه فيرى كيف يحيي الله تعالى الموتى ويريه الله عز وجل هذه الآية يأتي موضوع الإنفاق (مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ).
ثم يتسلسل الحديث عن صفات هؤلاء الذين ينفقون، وما هي النفقة المقبولة، والتحذير من المن والأذى، ثم يتكرر موضوع مضاعفة الله سبحانه وتعالى لمن ينفق ابتغاء مرضاة الله سبحانه وتعالى، وتشبيه من ينفق ابتغاء مرضاة الله بالجنة ذات الربوة، وضَرْب المثل ببقاء ثواب هذه الصدقات وهذا الإنفاق بالحرز والوقاية لهذا المتصدق ولذريته من بعده بهذا المثل ( أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاء فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ).

الإنفاق ثم إيتاء الحكمة له دلالة عميقة

وحول دلالات الإنفاق والحكمة ومدى تأكيد الإنفاق يقول فضيلة الشيخ كهلان الخروصي: ويأتي التأكيد مرة أخرى على الإنفاق (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ، الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء وَاللّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)، ليكون ختام الآيات هذا السياق (يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ).
هذا الربط بين الإيمان في صدر الآيات ثم الإنفاق ثم إيتاء الحكمة له دلالة عميقة أن هذا التجرد من شح هذه النفس ومن أثرتها ومن حبها الجم للمال ببذل هذا المال موقناً هذا الباذل وهذا المنفق أن هذا المال إنما هو هبةٌ من الله سبحانه وتعالى وأن ربه تبارك وتعالى قادرٌ أن يسلبه إياه إن لم يؤد حقوقه فيه في أي وقت كان ليكون كمن ترك ذريةً ولها جنانٌ وأنهارٌ لكن أصابها إعصارٌ فاحترقت فما انتفعوا به.
وهذا الذي يصل إلى هذه المرحلة هو الذي يورَث الحكمة.. هو الذي يفتح الله سبحانه وتعالى له أبواب الحكمة والعقل والأناة وكل الخصال الحميدة التي يحبها الله سبحانه وتعالى ليأتي السياق بعد ذلك مؤكداً لهذا المعنى أي بعد هذه الآية يأتي {وَمَا أَنفَقْتُم مِّن نَّفَقَةٍ...} مرة أخرى يعود إلى موضوع الإنفاق {وَمَا أَنفَقْتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُم مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ اللّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ، إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ...} إلى آخر الآيات التي يمكن أن يُرجع إليها من الآيات مائتين وواحد وستين إلى مائتين وأربعة وسبعين من سورة البقرة؛ لتتأكد هذه الحقيقة أن الإنفاق في سبيل الله عز وجل هو من الخصال التي يحبها ربنا تبارك وتعالى، والتي تنجِّي صاحبها في الآخرة، والتي يظل ثوابها وأجرها ممتداً، والتي يحرز الله عز وجل بها حتى ذرية هذا المنفق وخلفه من بعده، والتي تورث هذا المنفق من الخصال أكملها وأجملها وهو إيتاء الحكمة بحيث يضع الشيء في موضعه، ويدرك حقيقة هذا المال الذي أعطاه إياه ربه تبارك وتعالى، ويتخلص من أشد ما يمكن أن يطغى بهذه النفس حينما تستغني.

حسبنا هذا اليوم ولنا بقية بإذن الله تعالى