إعداد - أحمد بن سعيد الجرداني
أخي القارئ الكريم أختي القارئة الكريمة.. في هذا اليوم المبارك من هذا الشهر العظيم نتحدث عن قيمة جديدة من القيم الإسلامية الرائعة، وهي عن (الإنفاق) والتي يرافقنا فيها فضيلة الشيخ د. كهلان بن نبهان الخروصي مساعد المفتي العام للسلطنة، وذلك من خلال البرنامج الإذاعي دين الرحمة والذي كان يبث في الإذاعة العمانية، وهو من إعداد الشيخ د. سيف بن سالم الهادي، وهذا الموضوع تمت إذاعته قبل سنوات مضت، ونحن في هذا الصدد اخترنا لكم هذه القيمة الإسلامية الرائعة لكي نحقق منها الكثير من الفوائد، لأنفسنا وللمجتمع والتقرب من الله سبحانه وتعالى، لأن موضوع الإنفاق من الموضوعات المهمة في هذا الدين التي تتصل بقيمه ومبادئه كما تتصل بأحكامه وبأصول شريعته فقهاً وعملا، وتظهر آثاره وتتجلى حكَمه في واقع حياة الناس أفراداً وجماعات؛ ولذلك كانت لنا هذه الوقفة مع موضوع الإنفاق.
ملامح أشارت إليها الآية الكريمة
يقول الله تعالى (لَيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَـئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ).
في البداية يتحدث فضيلة الشيخ د. كهلان بن نبهان الخروصي عن أهم الملامح التي تناول فيها القرآن الكريم الإنفاق من حيث الحكمة، والأهمية، والأثر؟ فيقول: هذه قضية لابد أن ننتبه لها؛ لأن فيها خيراً كثيراً: (كيف تناول القرآن الكريم موضوع الإنفاق؟)؛ لأن السياقات والمواضع التي ورد فيها الإنفاق أمراً به وحثًّا عليه وبياناً لحكمته وبياناً له صفة يتصف بها عباد الله تعالى الأتقياء المؤمنون كثيرةٌ جداً في كتاب الله عز وجل، وسوف أعلق على هذه الآية من سورة البقرة، ثم بعد ذلك نأتي سريعاً إلى تناول القرآن الكريم لموضوع الإنفاق.
هذه الآية تبين معنى البر، وقد ورد البر في كتاب الله عز وجل في أربعة مواضع، وفي موضعين من هذه الأربع اقترن البر بالإنفاق، وسوف نأتي إليها:
الموضع الأول هو هذه الآية {لَيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ..} إلى آخر الآية، والموضع الآخر هو قوله تعالى: {لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ ...} ، والبر هو سعة الإحسان، وهو ابتغاء مرضاة الله سبحانه وتعالى بأكمل المعاني والخصال؛ ولذلك فالبر مساوٍ للإحسان الكامل، ولشدة ابتغاء الخير، وإرادة المعروف، والإحسان الشامل.
وهنا تبدأ الآية بنفي أنواع من البر، مع أن منها ما هو من البر كما بينت الآية نفسها، والآية وردت طبعا في سياق الرد على أهل الكتاب الذين عَرَّضوا بالمسلمين إثر تحويل القبلة، ومع أن استقبال القبلة.. استقبال الكعبة هو من البر؛ لكن الآية تنفي أن يكون ذلك هو تمام البر وكماله، إذ هذه وسائل والمقصود هو المقاصد والغايات، فما هذه الوسائل من تحويل القبلة ومن استقبال الكعبة ومما بينه الله سبحانه وتعالى في مواضع أخرى من كتاب الله عز وجل إلا وسائل.. طرق تُبلِّغ العبد إلى غاياتٍ مقصودةٍ لذاتها؛ ولذلك فإن استقبال القِبلة مثلاً يسقط في حالة العجز.. في حالة المرض.. في حالة عدم الإمكان؛ لكن لا تسقط الصلاة.
لا ينصرف الاشتغال إلى الوسائل دون المقاصد
وهنا يوضح فضيلة الشيخ قائلاً: وكذلك الآية فيها ملحظ إلى ما ينبغي الاشتغال به حتى لا ينصرف الاشتغال إلى الوسائل دون المقاصد، فالآية تؤكد على أن من كمال بر الإنسان المسلم أن لا يقصر اشتغاله على الوسائل، فمع اشتغاله بالوسائل لا ينبغي له أن يفوِّت عن ناظريه بلوغ الغايات والمقاصد التي هي تقوى الله سبحانه وتعالى.
المال إنما هو مال الله عز وجل
ويبين فضيلة الشيخ في هذا الجانب صفات المنفق قائلاً.. لكن بعد ابتداء ذكر خصال هؤلاء الذين يتصفون بكمال البر وتمامه التي صُدِّرت بعد الإيمان بالإنفاق وكذلك خُتِمت بالإنفاق بالزكاة جاءت صفاتهم الخُلقية الأخرى {... وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ ...}، ثم يقول الله تبارك وتعالى: {... أُولَـئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ}، إذن هؤلاء الذين اجتمعت فيهم هذه الصفات ومنها إيتاء المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب، هؤلاء هم الذين صدقوا وهؤلاء هم المتقون.
وهذه المعاني نجدها متكررةً في كتاب الله عز وجل؛ فالقرآن يقر الفطرة التي فطر الله تعالى عليها الناس {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً}، ويقول هنا: {... وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ...}؛ لكن مع إقراره بهذه الفطرة فإنما الذم يكون للشح والهوى، والمطلوب من المسلم أن يتخلص من هذه الخصال، فيعلم بعقيدة الإيمان التي تكون الباعث وراء إنفاقه وبذله في سبيل الله عز وجل أن هذا المال إنما هو مال الله عز وجل وهذا العبد مستخلف فيه، وبالتالي فإنما عليه أن ينفق حيث أمره الله سبحانه وتعالى بالإنفاق، ولو كان ذلك مناقضاً لهوى نفسه ولحبه للمال الحب الجمَّ الكبير، وهكذا يؤجر على إنفاقه، وهكذا يتخلص من هوى هذه النفس، ويتخلص من شحها، وينال الأجر العظيم عند الله سبحانه وتعالى.
دليلٌ على عظيم منزلتها
وحول الآية التي تقول {... وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ...) يقول فضيلة الشيخ: لا شك أن العطف بالواو يفيد لغةً مطلق الجمع؛ لكن كما يقول أهل العلم إن في تقديم الذِّكر إعلاءً للشأن، وبالتالي هذا يدل على أن هذه الخصلة التي يلفت القرآن الكريم المؤمنين إليها دليلٌ على عظيم منزلتها، ولننظر نحن في كتاب الله عز وجل حتى نستعرض سريعاً: أصلاً بداية سورة البقرة ورد فيها موضوع الإنفاق بأسلوبٍ يُفهَم منه أن المقصود هو عدم حصر الإنفاق في موضوع الزكاة الواجبة، فالله تعالى يقول (الم، ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ، الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ)، ثم بعد ذلك قال: {والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ، أُوْلَـئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}، ونجد مثلاً في سورة الأنفال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُون ، الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} لم يذكر إلا هاتين الصفتين بعد ذكر صفة الإيمان وأن قلوبهم وجلة من ذكر الله تعالى، بعد ذلك قال: {أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً).
ونكتفي بهذا القدر وللموضوع بقية بإذن الله تعالى
المصدر موقع القبس الإلكتروني للشيخ عبدالله القنوبي