إعداد - أحمد بن سعيد الجرداني
نحن في هذه الأيام محتاجون إلى أن نتبين هذه الخصلة -المسارعة في الخيرات، وأن نَعرِف معانيها، وأن نَعرِف دلالاتها ومضامينها في كتاب الله عز وجل، ثم كيف ورد موضوع المسارعة في الخيرات في سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وفي هديه الشريف -عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام، كيف فهم صحابته -رضوان الله تعالى عليهم- هذه الخصلة النبيلة والخلق الرفيع عنه -عليه أفضل الصلاة والسلام، وكيف طبَّقوه؟ ومن هذا المنطلق أخي القارئ الكريم أختي القارئة الكريمة وعبر هذا المنبر نواصل تقديم موضوع حول المسارعة في فعل الخيرات.
الحكمة غير بعيدةٍ عن العلم
عن الحكمة يقول فضيلة الشيخ د.كهلان: لابد للمبادر بعمل الصالحات من الحكمة، وهذا هو الشرط الثاني، لقد كان الشرط الأول يتصل بالقصد والنية، أما الشرط الثاني فهو يتصل بالحكمة، والحكمة غير بعيدةٍ عن الفقه، والفقه بمعنى الفهم أي أن يَعلم حكم ذلك الشيء.. حكم ذلك الموقف.. حكم ذلك الأمر الذي هو داخل فيه أو يريد أن يدخل فيه أو أنه يراه أمامه فإنه لابد له من الفقه، ثم بعد ذلك -بعد مسألة الحكمة بما فيها من معنى- كما قلتُ -العلم والفقه- يكون بعد هذه الشروط.. بعد هذين الشرطين الأول والثاني تكون مراعاة المصلحة، سُئِلَ أحد المربين عن مسألةٍ، وهذه المسألة كان السائل يُخشَى عليه من الوقوع في محذور بالإجابة الصريحة له -بحسب نظر ذلك المربي- فما الذي قاله؟ قال: ليس كل ما يُعرَف يقال، وليس كل ما يقال يحضر وقته، وليس كل ما حضر وقته حضر أهله.
فإذن هذه الاعتبارات -اعتبارات الزمان والمكان- التي باعتبارها تتحقق مصلحةٌ راجحةٌ تكون الحكمة.. يكون الفعل.. تكون المبادرة، ولذلك سوف -نأتي بمشيئة الله تعالى- إلى نماذج كتكليف النفس ما لا تطيق من العبادات بدعوى المبادرة إلى اغتنام العمر.كما هو معروف فإن من شأن المسلم الصادق المخلص أن يغتنم صحته وشبابه وحياته بالأعمال الصالحة، لكن هذا لا يعني أن يُدخِل على نفسه مشقةً بأداء الكثير من النوافل التي يمكن أن تؤدي به إلى التفريط في الفرائض، فإن هذا ليس من الحكمة، وليس من المبادرة في الخيرات، ولذلك فإن التقدمة في هذا الدين إنما هي للفرائض التي افترضها الله سبحانه وتعالى ولها المحِل الأعلى، فإن حافظ عليها وأداها فإنه يَحسنُ به بعد ذلك ويجدر أن يبادر إلى الاستزادة من النوافل شريطة أن لا تؤثر على الفرائض التي فرضها الله سبحانه وتعالى عليه.
وهذا يوجد له أمثلةٌ كثيرةٌ، لنأخذ مثالاً -قبل أن نعود إلى مسألة النقطة الأساس التي ذكرتَها وهي كيف تناول القرآن الكريم هذا الموضوع: موضوع تعدد الزوجات -وهو موضوع يمكن أن يثير الكثير من المداخلات- إن آثر الذي يرغب في تعدد الزوجات -تعدد النساء- إن آثر إشباع رغبته فقط دون التفات إلى حقوق النساء -من المرأة التي هي تحته الآن أو المرأة التي يرغب في أن يتزوج منها.. دون نظرٍ إلى قواعد التعدد من مبدأ العدل، وعدم الظلم، وعدم الميل، ومن النظر في مصالحه الدينية التي يمكن إما أن تتعزز أو أن تضعف ويصيبه بسبب هذا الفعل الذي سوف يُقدِم عليه يصيبه فيها الفتور والخمول والكسل، فإن هذا التعدد لن يكون مجلبةً للخير والبر والأجر من الله سبحانه وتعالى، أما إذا كان مع رغبته في إشباع رغبته مع إقرار هذا الدين بجواز تلبية هذه الرغبة الفطرية إلا أن هناك قواعد لابد أن يَنظُرَ فيها وأن يحسب لها حسابها، أما أن يأتي هكذا فقط إشباعاً للرغبة ويقول: (لا.. لا، أنا أبادر إلى هذا الفعل، وهذا من سنة الرسول -صلى الله عليه وسلم)، وإذا به قرائن الأحوال تؤكد على أنه إنما يبرر لنفسه، فيأتي ويقول لك: (أنا أساعد على علاج مشكلة العنوس -العنوسة- في المجتمع)، وإذا به يتزوج بكراً ويترك العانسات الثيبات، ويدَّعي أنه يريد أن يكثِّر نسل المسلمين، وإذا به بعد ذلك تجد أنه لا يهتم بتربية أولاده، ويسيء إليهم، ويسيء إلى أسرته.
الثناء على المسارعة في الخيرات
ففي هذا الجانب يبين فضيلة الشيخ بقوله: سنذكر ما يتعلق بالثناء على المسارعة في الخيرات، وما يتصل بالعتب على المسارعة في المنكر، حتى تكون لدينا صورتان متقابلتان تتضح بينهما الصورة الصحيحة التي نتحدث عنها -يقول الله سبحانه وتعالى مخاطباً نبيه الكريم: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هِادُواْ...} إلى آخر الآية الكريمة من سورة المائدة، إذن تحذيرٌ للنبي -صلى الله عليه وسلم- من الحزن على أولئك الذين يسارعون في الكفر، ومثل الكفر كل جحودٍ بنعم الله سبحانه وتعالى، وكل شرٍ وباطلٍ وفسادٍ في هذه الأرض هو مذمومٌ في هذا الدين، لأن المسارعة لا تكون فيه بل المسارعة المحمودة إنما تكون في تركه والبعد عنه وتجنبه.
الآية للتخفيف
وفي سؤال حول معنى الحزن هنا؟ لأنه قد يفهم أنني لا آسف على كافرٍ مثلاً أو منحرف؟
أجاب فضيلة الشيخ د.كهلان قائلاً: هذه الآية هي للتخفيف من وطأة ما لاقاه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من المنافقين ومن المشركين.. مع فطرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وحبه وحنوه على أمته وعلى من يدعوهم إلى هذا الخير، إلا أن ما يلاقيه منهم في نفسه وفي أصحابه المسلمين المؤمنين يكون له أثرٌ في نفسه، فإذا بهذه الآية تخفف عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هذا الأثر وتبين صفات هؤلاء أنهم سمَّاعون للكذب.. سمَّاعون لقومٍ آخرين وأنهم يحرفون الكلم من بعد مواضعه إلى آخر الصفات، حتى يُخفَّفُ عنه -عليه أفضل الصلاة والسلام- ما يجده.كذلك نجد أن الله سبحانه وتعالى يصف أو يجعل من صفات المنافقين الذين ينخُرون في هذا المجتمع أنهم يسارعون في نشر الفساد في الأرض لمرضٍ في قلوبهم فيقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ، فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ}.
مرض في القلوب
وعن الذين يتسابقون إلى إرضائهم والتقرب منهم على حساب دينهم وأخلاقهم، يقول فضيلة الشيخ كهلان: هذا يعود إلى مرضٍ في القلوب، وهي صفةٌ ظاهرةٌ لهؤلاء المرضى المنافقين الذين لا همَّ لهم إلا النخر في وحدة المجتمع المتماسك المتراص، وكذلك نجد أن الله سبحانه وتعالى وصف طائفةً من بني إسرائيل كما وصف طائفة من أهل الكتاب بالمسارعة في الخيرات، ووصف طائفةً من بني إسرائيل بالمسارعة في الإثم والعدوان، ليُحذِّر هذه الأمة من الوقوع في ذلك، ولذلك قلنا الإثم والعدوان والشر والباطل إنما المسارعة المحمودة تكون بالابتعاد عنها وبتركها فوراً، وهذا التحذير ورد في سورة المائدة في قوله تعالى: {وَتَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ...} من بني إسرائيل {وَتَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}، وأما في الطرف المقابل فالله سبحانه وتعالى يقول: {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ، فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ}. صدق الله العظيم. وللموضوع بقية بإذن الله تعالى...
المصدر: موقع القبس الإلكتروني للشيخ عبدالله القنوبي (بتصرف)