ماكرون.. رواية فرنسية

مقالات رأي و تحليلات الأربعاء ١٧/مايو/٢٠١٧ ٠٤:٢٠ ص
ماكرون.. رواية فرنسية

بيرنارد هنري

يبدو أن انتصار إيمانويل ماكرون في انتخابات الرئاسة الفرنسية أشبه بحبكة رواية يرفض أي ناشر قبولها. ثم عندما يقبلها ناشر ما أخيراً، يجد نفسه وقد وقع على الرواية الجامحة الأكثر مبيعاً.

للمرة الأولى في التاريخ الفرنسي الحديث، يقرر رئيس شاغل لمنصبه، فرانسوا هولاند، عدم السعي إلى الترشح لإعادة انتخابه. وإذا بمجموعة من كبار رموز التيار المحافظ، بما في ذلك رئيس سابق، يسلخ كل منهم الآخر، فيصبح في المجال متسع للمرشح فرانسوا فيون، الذي تصور الجميع أنه فوق مستوى الانتقاد والشبهات، إلى أن لحق به ماضيه.

ثم ينقسم الاشتراكيون الحاكمون، بعد طعن رئيس وزرائهم مانويل فالس من الخلف، فيتوزع دعمهم بين المسؤول الحزبي بينوا هامون، الذي حل في مرتبة متأخرة كثيرا بين المتسابقين في الجولة الأولى، واليساري الراديكالي جان لوك ميلينشون، الذي صور نفسه بوصفه ثوريا وهو يوالي الحكام المستبدين وصورته الشخصية، ولكنه تعثر على عتبة الجولة الثانية.
ثم ترتكب مرشحة اليمين المتطرف مارين لوبان شكلا من أشكال الانتحار العام في نهاية المناظرة الرئاسية الرئيسية. فكأنها شخصية في مسرحية هزلية، تفاجئنا بإسقاط قناع الاحترام الذي حملها المسؤولون عن إعدادها على ارتدائه، بعد وصلة تعرِ بلاغية محرجة، فتكشف عن وجه زعيمة حزب فاشي متطرف.
ثم في اللحظة الأخيرة، تُختَرَق أجهزة الكمبيوتر في حملة ماكرون، فتطلق مجموعة من رسائل البريد الإلكتروني التي كشفت عن أن أعضاء حزب المرشح شاركوا في أنشطة شائنة، مثل الدفع لموظفيهم، وحجز الموائد في المطاعم، وتبادل الملفات بغرض قراءتها. وفي تغريدة قاتلة، يبدو منها أن كبير مساعدي لوبان يربط نفسه بهجوم سيبراني، جرى التدبير له في الأرجح، وربما تنفيذه أيضا، على بُعد عِدة آلاف من الكيلومترات إلى الشرق.
في نهاية هذه السلسلة من التحولات والمنعطفات غير المعقولة، وعند لحظة الحقيقة في الدراما التي مَدَّت إلى حدود جديدة أطراف «التعليق الطوعي لعدم الثقة» والتي رأى كولريدج أنها «تشكل يقينا شِعريا»، يظهر شاب لم يكن معروفا عمليا قبل عام واحد ليتبوأ منصب رئاسة فرنسا.
قبل فترة طويلة من تدوين التاريخ التفصيلي لهذه الحملة ــ الكارثية والرائعة، الحمقاء والمعجِزة ــ سوف يضطر رئيس فرنسا الجديد إلى مواجهة التحديات التي تفرضها ظروف انتصاره. وسوف يكون لزاما عليه أن ينجز العديد من الأمور في حين يعمل على إقناعنا بأنه قادر على إنجاز الأمور. وسوف يتعين عليه أن يضع نصب عينيه حقيقة مفادها أن رفض لوبان لا يُعادِل بأي حال من الأحوال التصديق على برنامجه وإقراره.
منذ الساعات الأولى من ولايته، يتعين على ماكرون أن يوظف نفسه في مهمة جلب الحقيقة والوحدة، والتي بوصفه قارئا متبصرا للفيلسوف بول ريكور جعلها محور تركيز حملته. كما ينبغي له أن يقاوم أولئك من مؤيديه الذين لن يتورعوا في زهوة انتصارهم عن محاولة تحويله إلى صانِع معجزات.
ومثله كمثل ملك الدنمارك كانوت في القرن الحادي عشر، والذي أمر أمواج البحر بعدم ضرب عرشه ثم استعرض بعد أن وضع عرشه على الشاطئ مدى هشاشة إمبراطوريته أمام المداهنين والمتملقين والحالمين الذين تخيلوا أنه ملك الكون، يتعين على ماكرون أن يتصرف بتواضع. وكما فعل مع العمال في مصنع ويرلبول في شمال فرنسا، ينبغي له أن يعيد عمل السياسة إلى أبعاده الصحيحة المعقولة.
بيد أننا لم نبلغ بعد هذه النقطة. في الوقت الحاضر، تتلخص أمنيتي الوحيدة في تحية الرجل الذي تمكن برمية نرد من إبطال مفعول المصادفات والمخاطر التي كانت على طريقه لكي يصبح أصغر رئيس في أوروبا سنا.
لا أقول إن الشباب حجة مقنعة في حد ذاتها. فأنا مثل كثيرين منا، أدرك تحذيرات سِفر الجامعة للبلد الذي كان ملكه طفلا.
ولكني أدرك أيضا، كما أدرك مكيافيلي، أن في حماسة الشباب، في دوافعه الجريئة، في غضبه وحبه للفنون، في رغبته، ما يكفي لإخضاع المصير بسهولة أكبر. ألم تكن هذه هي الحال في العام 1789، مع الثوريين الفرنسيين من أمثال لازاري هوكي وسانت جوست، ومع بونابارت الأول ونابليون الثالث (إلى ماكرون، الرئيس الأصغر سنا في تاريخ فرنسا)؟ ألم تكن هذه هي الحال أيضا مع بينظير بوتو، وجان دارك، وجون ف. كينيدي، وتيودور روزفلت؟
وأنا أعرف أن هناك أيضا العديد من أشكال المحافظة في هذا البلد، والكثير من العقبات المحتملة، والعديد من المتعصبين الذين أقسموا على قلب رجل واحد، قبل انتخاب ماكرون، على رفض وازدراء المصرفي الذي يريد أن يصبح رئيسا ورميه من أعلى صخرة تاربيان. وأنا أعلم أن هناك الكثير من الشعبويين على اليسار (ولا سيما ميلنشون الذي يشعر بالمرارة) وعلى اليمين (نيكولا دوبون آنيون المثير للشفقة الذي سارع إلى الابتعاد عن الكاميرات ليلة الجمعة بعد مغادرة الكاتدرائية في ريمس، حيث توج ملك فرنسا)، والذي تحت سِتر ورقة التوت المتمثلة في ازدراء التمويل، يخون روح فرنسا الحقيقية.
وأنا أعلم أن العواطف المحزنة الهاجعة في هذه الأشكال خبيثة إلى الحد الذي أصبح معه من المستحيل تقريبا أن تُفسِح المجال للمُثُل المشتركة التي هي الروابط الاجتماعية في الديمقراطية الجمهورية. وأنا أعلم أن شيئا ما يتفاعل مع وعكة الحضارة الفرنسية في حماسة الفائز اليوم، وفي بهجته، وفي تفاؤله الشاب (التفاؤل المحسوب المتقد التوجيهي).
لقد مرت اللحظة التي بدت بلا نهاية بين جولتين انتخابيتين، لحظة حين بدت فرنسا وكأنها تترنح. والآن يبدأ القتال المفتوح بين أولئك الذين يؤمنون بأن الحرية باقية وأولئك الذين دفنوا الحرية بالفعل.
لقد أبرز كل من الجانبين أوراقه. والآن يحتاج العالَم الديمقراطي إلى ماكرون حتى يتسنى له تحقيق النجاح.

أحد مؤسسي «حركة الفلاسفة الجدد»